زيارة سيدي محمد الماحي بن الشيخ إبراهيم لمحمد عبد الله بن السيد في انواكشوط

0
916

mahy niass
بسم الله الرحمن الرحيم
انواكشوط بتاريخ 4 ـ ربيع الثاني 1415 هــ
زيارة لمحمد عبد الله بن السيد العلوي
سألني مرافقي بعد الخروج من الزيارة إذا كنت بكيت فإنه رأى دموعا كثيرة تسقط من عيني وإنه تطلع إلى وجهي ليكتشف انفعالات البكاء فوجده كتلة جامدة لا تعبير فيه، لا تجري فيه الحياة، توقفت الحياة دونه ولا أثر لها فيه، إلا تلك الدموع الكثيرة وذلك العرق الذي كدت تغرق فيه، ولقد رأيتك تصغي إلى محدثك كأنك آلة تسجيل لا تريد أن تحذف كلمة واحدة، وأنك وأنك ,,,أسئلة كثيرة تسابق بها مرافقي إلي.
فقلت وأنا لا زلت تحت أثر الاندهاش والدهشة:لا شيء من ذلك، ولكن أنا الذي أسأل كيف تتصور إنسانا وهو يستمع إلى كلام نبوي منبثق حالا من مشكاة الحكمة، يتناثر في فضاء الأرواح ورحاب القلوب كأنه حبات لؤلؤ أتم الله خلقها حينا
كيف يعيش إنسان لحظة مشاهدة روعة الخلق وجمال الإبداع، لحظة استدارة الزمن كهيئته الأولى يوم خلق الله السموات والأرض، فكل شيء عاد إلى البدء وانسلخ عن شكله وصورته، وهيئته، ذابت في الأبد، في المطلق.
أما الذي كنت تراه فبعض عصاراتي، بعض بقاياي. لقد تفاعلت عناصري لتتحول إلى كتلة من الإحساس عالي الحرارة. كانت الرهبة، وكان الجمال، وكان الجلال، والروعة معا. تتسرب إلى أعماقي، فلم أنتبه لشيء آخر. ما كانت لي عيون. ولا آذان. تآكل كلي. أكل بعضي البعض الآخر، لم أستمع لشيء. فما كان يخرج من السيد محمد عبد الله ولد السيد ليس بكلام، إنه هدير يجرف الفناء، كان يكنس القلوب، ويصقل النفوس، ويطهر الأرواح. فكان مثل صدمات الكهرباء المستعملة عند بعض الأطباء لطرد المرض من الأجسام. هكذا صدمني محمد عبد الله ولد السيد وهرسني، ونثرني، أشلاء متطايرة في مهب الرياح. ولا يجمعني شيء إلا رنين صوته، أشعة نوره، قلبه الذي كان يذوب في كلماته فيزيدها إشراقا ويضفي إليها مسحة من الرفعة والجلال والبلاغة يلامس أدق خفايا الوعي والإدراك.
إن الذي كنت أعيه كان بلا ألفاظ، ولا كلمات، ولا من العناصر التي يكون منها الكلام. إنه كلام نبوي في أجلى وأصقل معانيه. بل إنه وجه من وجوه القرآن التي تبلغ السبعين.
كان محمد عبد الله ولد السيد العلوي محيطا هادئا يبدأ بقذف صغار اللآلئ. ثم لا يلبث أن يدركه ما يدرك المحيطات من هيجان وثورة كيما تطفو على سطحه كوامن الدرر وغوالي الأحجار، تماما كما تقذف البراكين الهائجة كتل النيران إلى كل الجهات. وبما أننا كنا في حضرته شبه أشباح اهتززنا بعنف في مهبه.
حاولت أن أتلمس نفسي وأجمع بعضي إلى بعضي وأتعلق بأي شيء، ولم أهتد إلى شيء. لا يدلي تساعدني في لم نفسي فأتشبث بها، وحتى لا نفسي التي أريد الاحتماء بها. وحاولت أن أفكر ولكنني كنت معطل القدرات مشلول الإرادة. لقد اتصل الزمان بالمكان وانتهيا إلى المطلق. كنا مثل الأفلاك الصغيرة تاهت ربانها في هذا المحيط الهائج بلا أجداف، فجزنا أطوار العقول وطاقات القلوب فتحطمت السدود، وتكسرت القيود، وأزيلت الحجب وتراءت. كل شيء على حقيقته صارخة. إنما نحن فتنة فلا تكفر وبدت المعقولات والمألوفات مثل الأطر التي تحدد الأشياء لحكمة أرادها الله.
كان محمد عبد الله دليلا ماهرا، يعرف البيداء،ويألف العرصات، ويتقن جغرافيتها. يشير إلى كل شيء باسمه ودوره إلى منطقة العقل ومهمته أتت من اسمه. إن مهمته الربط. تلك منطقة الروح، وهو السلطان الحاكم لجميع المناطق: النفس والقلب والغرائز والشهوات، هكذا منطقة منطقة. يشير لك إلى كل هذا دون أن يعنتك.
ولحكمة أرادها الله، كانت هذه القوالب والأطر تجربة ما استهنت بها. ولقد وقفت أسأل نفسي إذا كانت الرؤية التي تتم للصالحين في حق النبي هل هو بهذا الشكل يتم؟
هل هذا السماع الذي يتم بلا أذنين ولا حروف ولا كلمات هل هو سماع الأنبياء للوحي من عند الله؟
إن موسى عليه السلام قال كلاما بهذا المعنى عند سماعه لخطاب الله. هل هذه اللحظة التي تذيب كل شيء في آن أبدي، ويتم فيها الاتصال بين الأزل والأبد، بين المطلق والمقيد؟
هل هو الوصال الذي يتهافت له الشعراء، ويتغنى به العشاق، ويتحرق له المحبون وكبار القوم من أهل المحبة والوداد؟
إن شيئا من كل ذلك أصبته وأنا في زيارة محمد عبد الله ولد السيد في بيته الشامخ هيبة وجلالا. وأمام هذا الرجل المنحدر من الدوحة الشامخة سلالة العترة الطاهرة التي عندها تنتهي المكارم، عشت عمرا من أنفس وأشرف لحظات العمر. لحظة الحضور بالله في الله لله إلى الله. لحظة العرفان العالية، لحظة الالتذاذ الأزلي.
وعند باب السيارة وقفنا بعد الانتهاء من الزيارة ومراسيم الضيافة الحلوة، ولا زال الجو كما كان. كنا خارج الزمان والمكان. كنا أشباحا كائنات فوق الطبيعة لم نقف بعد.
هنا جاء الشيخ محمد عبد الله ولد السيد بآخر الأسفنج ليغرزه في أدمغتنا وعقولنا وقلوبنا.
وقفنا ونظرتنا تائهة في اللانهائي، وإذا بصوته الوقور الشجي يخرقنا قال: يا ماحي، فانتبهت، بل ازددت انتباها ويقظة لما قد يعقب هذا النداء المفاجئ. وشددت أعصابي. وأيقظت كل ما في من إحساس. وحاولت أن أقول لبيك. ولكن لم يكن عندي لسان. فأغرقت في اليقظة والانتباه لهذا الشيء الذي أوجب هذا النداء الذي كأنه إعداد لنا.
فقال لي: قل لأهل مدينة إذا عدت إليهم بأنني أحبهم. قل لهم ذلك. ثم تمتم: أحبكم هذا كل ما عندي لكم.
ما ذا حدث لي بعد ما سمعت هذا الكلام؟ إنه حدث لي ما قاله أنيس منصور “أسقطت في نفسي، سقط رأسي على صدري، ووقع صدري على بطني، وهبط الجميع على رجلي اللتين خرت قواهما”. إنه جمرة في فؤادي وضربة في قفاي.وكدت أقع على قدميه لثما وتقبيلا لولا خوف الرقباء الخارجين على عالمنا اللاقانوني. ولو فعلت ذلك ما خرجت عن الصواب ولا خالفت الحق في شيء. ولو فعلت لصح لي أن قدمي رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل. ولكني عفوته عن ذلك احتراما له. فالرجل من أهل البيت خلقا وخلقا. ولو فعلت أيضا لن أرتكب ممنوعا. ذلك أن لحظات الحق في الدنيا نادرة وأندرها لحظة مشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما رابني أني كنت في حضرته تلك اللحظة.
لحظة تعدي الحقائق عن أطرها وأشكالها وهيئاتها. هذه اللحظة التي تحدث عنها الشيخ عثمان انجاي فقال: “ولم أجد اسما أذكر به الله تعالى، فنوديت ذلك هو الذكر مع الأنفاس” لحظة لا لحظة. ولم يكن محمد عبد الله يحدثنا إلا عن شيء خاص به، خاصة نفسه: رحلته في البحث عن الحق في حديث سنه ومعاناته وعناده وعزة نفسه عليه إلى جانب شماخة أصوله التي تحققت انتسابه إليها كما قلت خلقا وخلقا. خلق جميل، قوام معتدل وبياض مشرب بالحمرة وأعضاء مسترسلة ووجه مستطيل تعلوه جبهة رفيعة وأنف منتصب وتفاصيل أخرى يحسنني أهل الوصف فيها، وخلق رفيع دمث حلو ظريف الحديث، طريف الملاحظة.حدب محترم للحرمة إلى أبعد مدى، شيمة آل البيت الكرام عليهم رضوان الله.
عندما رجعنا إلى الفندق وخلوت إلى نفسي، جلست أراجع كل الذي حدث وأفتش في الذي رأيت وسمعت لعلي أهتدي إلى سر كل ذلك النور الذي بهرني ووضعني في حال من الدهش عميق. وحاولت تفسير كل شيء وفق قراراتي المنطقية، وطاقاتي العقلية. وأرتب الأمور أفقيا، أجهد في ذلك نفسي غاية الإجهاد. ولكني لم أبلغ من ذلك الجهد ولا من تلك المحاولة غير الاستسلام والخضوع لأمر لله. وأن الذي حدث كان سرا من أسراره التي لا يخرقها العقل ولا يخرمها الذكاء. وغاية العقل والذكاء ترك التطاول فيما استأثر الله بعلمه، علام الغيوب. فالتفكير الطويل فيه لا يجدي، والتأمل العميق لا يزيد إلا غورا. ولا أدري إذا كنت سمعت صوتا يأتي من بعيد يقرأ:
هنيئا لإبراهيم لاح هلاله + هلال بدا للناظرين جماله
وعلى صدى هذا الصوت استسلمت إلى الفراش أردد نفس البيت وأقول صدق والله الشيخ إبراهيم، وما المانع من أن يكون هذا أحد جوانب جمال هذا الشهر الذي يبدو للناظرين؟
هذه الحالة إحدى الأحوال التي تنتابني كلما جلست بين أصحاب الشيخ في موريتانيا. ثم تلوت قول الله تعالى{فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين} صدق الله العظيم
محمد الماحي إبراهيم انياس