وسألته رضي الله عنه عن قوله تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

0
888

وسألته رضي الله عنه عن قوله تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ، فأجاب رضي الله عنه بما نصّه : إعلم أنّ الكلام على محبّةً الحقّ سبحانه وتعالى لعبيده أمّا ما يعهده في محبّةً المخلوقات التي هي شدّة الميل والشغف بالشيء حتّى لا يَجِدَ عنه صبرا أو شدّة الاشتياق إلى المحبوب عند فقده والولوع به حتّى يذهب عن عقله هائما في حُبِّ المحبوب فهذه كلّها مستحيلة في حقّ الله سبحانه وتعالى لا يتأتّى في ذاته العليّة أنْ يطرأ فيها ميْلٌ أو شغَفٌ أو شوْقٌ إذ هو في مرتبة ذاته جلّ وعلا في العلوّ الذاتي والكبرياء الذاتي والعزّ الكامل والجلال الذي لا يُوصَفُ ولا يُكَيَّفُ ، وكلّ هذه الصفات العليّة مِنْ حيثُ ما هي هِي في الذات اقتضتْ أنْ لا يوجد شيء معه من الأكوان لأنّ الكبرياء الذاتي والعزّ الذاتي والعلوّ الذاتي والجلال الذاتيّ تقتضي كلّها غيرة من وجود غيره سبحانه وتعالى معه فضلا عن أنْ يلتفتَ إليه بمحبّته أو يلْتَوِي إليه بشوْقٍ لِمَا هو عليه من الصفات المذكورة ، وفيها يقول سبحانه وتعالى : « كنتُ كنزا لم أُعْرَفْ » إذ هو في تلك الغيرة بوجود تلك الصفات يأنف من وجود غيره معه ، ثمّ تنزّل سبحانه وتعالى بقوله : « فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ » وهذا التنزل منه ليس نزولا عن المرتبة الأولى بل هو فيها أزلاً وأبداً لكن اقتضت مشيئته سبحانه وتعالى التي يستحيل نَفْيُ ما تعلّقتْ به أنْ يُوجِدَ عالَما من الموجودات يتصرّف فيه بإفاضة رحمته وعمومها وبظهور سطوات جلاله وعلوّها وعَبَّرَ عمّا تعلّقتْ به هذه المشيئة هو التنزّل ، ثمّ قال : « فخلقتُ خلقا فتعرّفتُ إليهم فَبِي عرفوني » . وكان تنزّله إليهم بحُكْمِ المشيئة ، إقتضى ذلك التنزّل فَيْضاً من نقط جُودِهِ وكرمه التي ينتفع بها مَنْ وقعتْ عليه . ومِنْ هذا الفيْض حَكَمَ سبحانه وتعالى واختلف حُكْمُهُ سبحانه وتعالى في وجوده ، فطائفة شاء ترفيعهم وتعظيمهم وتمكينهم من الرتبة العليا والعلوّ والشرف والتعظيم وهؤلاء هُمُ النبيؤن والملائكة ومن شاء اختصاصه من عوالمه في هذه الرتبة ، وطائفة قضى بترفيعهم وتعظيمهم وإعلائهم إلى رُتَبٍ هي دُونَ الأولى وأهل هذه الرتبة هُم الصديقون والأقطاب ، ثمّ حَكَمَ بِرُتَبٍ دونهم في الترفيع والتعظيم وإفاضة الفضل والجود وفي هذه المرتبة عامّة الأولياء على اختلاف مراتبهم ومن شاء تخصيصهم مثلهم من العوالم ، ودونهم طوائف قضى بترفيعهم وإعلائهم إلى رتبةٍ دون هذه الرتبة وفي هذه المرتبة طوائف الصالحين الذين قضى لهم سبحانه وتعالى بتوفية امتثال أمْرِهِ واجتناب نَهْيِهِ مع ضيق الحجاب وغمّه ، فَهُمْ دائما يتقلّبون في أطوار المجاهدات وضِيقِ الأمر لم يخرجوا إلى رَوْحِ الأحوال واتّساع المجال وإطلاق الأرواح في سراح الوجود الذي لا غاية له لأنّ تلك مرتبة الأقطاب والصدّيقين ، وطائفة دونهم في المرتبة قضى بترفيعهم وإعلائهم واصطفائهم أيضا وهُمْ عوامّ المؤمنين وهُمُ الذين يقعون مع إيمانهم في مخالفة أمْرِهِ ، والكلّ قد اكتنفتهم مراتب التعظيم والإجلال ، والكلّ مأواهم الجنّة لكن مراتبهم مختلفة كما قلنا ، وكلّ هذا تصرّف المشيئة الإلهية واختصاصها لِمَنْ شاء سبحانه وتعالى ، وهذا التصرّف بحُكْمِ المشيئة هو المُعَبَّرُ عنه بمحبّة الحقّ لخلقه وإنْ تباينتْ مراتبهم في المحبّة ، لكن هي المحبّة الخاصّة منه وأصحابها كما قلنا ، إلاّ أنّ هناك أمرًا دقيقا صَعْبُ المرام لا مطمع للعقول والأفكار فيه اختصّ به المرسلين والصدّيقين ومَن وراءهم مِن عموم النبيئين وهو محبّة ذاته العلية حُبّا خالصا لذاتها لا ليعود عليها منه شيء ، وهذا المطلب هو أقصى المرامات كلّها ، فمَن مَنَحَهُ سبحانه وتعالى ذرّة من هذا المطلب ارتفع به إلى الرتبة العليا في التعظيم والإجلال ، ومن دون الصدّيقين لا حظّ لهم في هذا الخطاب .
وهناك المحبّة العامّة منه سبحانه وتعالى ، وفي هذه المحبّة جميع العوالم حتّى للكفّار فإنّهم محبوبون عنده في حضرة قوله تعالى : « فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ خلقاً فتعرّقتُ إليهم فبي عرفوني » . لا تظنّ أنّ مخلوقا أُهمِل من هذه المعرفة فإنّ الأرواح كلّها خُلِقَتْ كاملةَ المعرفة بالله تعالى ولكنْ طرأ عليها الجهل بمخالطتها للجسم ، فإنّما ذلك الجهل بمنزلة الذي كان كامل العقل والعلم بالأمور فَطَرَأَتْ عليه مصيبة فصار أحمق لا يميّز شيئا ، فإنّ الجهل الذي وقع للأرواح ليس هو الأصل فيها وإنّما الأصل فيها المعرفة بالله تعالى من كلّ وَجْهٍ .
ولعلّ المعارض يقول : ” فما بال أجسامهم جهلت بالله وهي داخلة تحت قوله : « فأحببت أن أعرف » ” ؟ فالجواب : أنّ أجسام الكفّار ليس فيها جهل بالله تعالى وإنّما لها أدراك وحدها خلاف أدراك الروح وبذلك الإدراك صارت عارفة بالله تعالى فتسجد له وتسبحه ولا علم لها بما الروح فيه من الشرك بالله ، قال سبحانه وتعالى : وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، فهي من جملة الأشياء التي تسبّح الله تعالى وتسجد له وإنّما مصيبة الشرك والجهل خاصّة بالروح وليست هي الأصل فيها بل هي مصيبة طرأتْ عليها ، قوله : « فتعرّفت إليهم فبي عرفوني » معنى أن الكفار داخلون في هذه المعرفة لأنَّهُمْ ما جهلوه في هذه المرتبة وهُمْ داخلون في عموم هذه المحبّة وهذا الأمر فيهم هو الأصل الذي إليه المرجع وما طرأ عليهم من وراء ذلك بسبب الكفر من الذلّة والإهانة واللعن والطرد والغضب والسخط وشدّة العذاب وتأبيده فإنّما هي تلك عوارض طرأت على الأصل والأصل هي المحبّة ، فما خرجت الكفّار عن محبّته سبحانه وتعالى لكن المحبّة العامّة ، إذِ الخاصّة لا حظّ لهم فيها التي مقتضاها الترفيع والإجلال ، والمحبّة العامّة هُمْ داخلون تحت حيطتها وإليها مرجعهم ومآلهم من وجهٍ لا يحِلّ ذِكْرُهُ وما يعقله إلاّ الأكابر ويُترَك ذلك تحت غطائه لا يُذْكَرُ لأهل الظاهر لعدم قبول عقولهم له ، واطّلَعَ عليه الخاصّةُ بالفيْض الإلهي ، ولقد غنا غنات من هذا الأمر الشيخ الأكبر والشيخ عبد الكريم الجيلي فقد وقع عليهم الخبط والصعق عقوبة لهم لِمَا أَبْدُوا مِنَ العلم المخزون .
إلاّ أنّه جاء ما يدلّ على هذا في الظاهر في قوله صلّى الله عليه وسلّم في سهيل بن عمرو ، وكان من أشراف قريش وكان خطيب العرب إذا تكلّم حرّك الساكن ، حين أخذه أسيرا يوم بدر قيل له : « يا رسول الله أنزع ثنيتيّْ سهيل لا يقوم عليك خطيبا في موضع ، قال صلّى الله عليه وسلّم لا أمثّل به فيمثّل الله بي وإن كنت نبيا » ، عَلِمَ أنّه ما خرج عن محبّةً الحقّ ولو كان كافرا إذ لو لم يكن محبوبا عنده ما صحّت عقوبة نبيّه لأجله ، وكذلك حين وجد عمّه حمزة ممثّلا به قال صلّى الله عليه وسلّم : « لئن أظفرني الله بهم لأمثّلنّ بهم بثلاثين قتيلا في حمزة » ، فأنزل الله سبحانه وتعالى عليه : وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى لِلصَّابِرِينَ ، فدلّ هذا على أنّهم في محبّةً الحقّ وإنْ كانوا كفّارا إذْ لولا ذلك ما نهى نبيّه صلّى الله عليه وسلّم عن الزيادة في التمثيل . فهذان الحدثان يرمزان لِما قلنا مِنَ العلم المخزون . قال أبو يزيد رضي الله عنه يوم باسطه الحقّ في حضرة قُرْبِهِ قال له : يا عبد السوء لو أظهرت مساويك للناس لرجموك بالحجارة ، قال هو : وعزّتك لو أخبرتُ الناس بما كشفتَ لي من رحمتك ما عَبَدَكَ منهم أحد اتّكالا على تلك الرحمة ، قال له سبحانه وتعالى : لا تفعلْ ، قال له : فلا تفعلْ أنت .
وأمّا محبّةً الخلق لله سبحانه وتعالى فَهُمْ فيها أيضا على مراتب :
الأكابر الأعْلَوْنَ منحهم محبّةَ ذاته سبحانه وتعالى فَهُمْ بها غرقى في بحار التوحيد لا يعرفون غير الله تعالى ولا يلتفتون إلى سواه ولا عِبْرَةَ عندهم بغير محبّتة واعتمادا والْتجاءً وافتقاراً وتهمّما ليس لهم في هذه الأمور إلاّ الله سبحانه وتعالى لا يخطر في أسرارهم غير الله تعالى .
ودونهم في المحيط عامّة الأولياء يحبّون الله تعالى لفضله ولما منحهم من جوده وكرمه ، ومحبّتهم مقتضاها الشكر ، وعلى هذه المحبّة دلّت الأنبياء جميع الخلق . قال سيّدنا هود عليه الصلاة والسلام لقومه : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ إلى قوله : لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، وقال سيدنا صالح عليه الصلاة والسلام لقومه : وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ إلى قوله : وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، وهكذا جميع الرسل ذكّرت الخلق بما منحهم الحقّ سبحانه وتعالى من نعمه . وهذه المحبّة مقتضاها الشكر ، وهي التي فيها يعملُ العبد ، ليست كالمحبّة الأولى التي هي محبّة الذات فإنّ تلك لا تَعَمّل للعبد فيها إنّما هي فيض من فيوض الحقّ تعالى وفي هذه الرتبة جميع الأولياء .
والمحبّة الثالثة هي محبّة الإيمان بالله تعالى وهي محبّةً جميع المؤمنين التي انتفى بها بُغْضُ الحقّ سبحانه وتعالى فما يتصوّر مع الإيمان بالله بُغْضٌ له سبحانه وتعالى .
والمحبّة الرابعة العامّة وهي للكفار خاصّة ، فإنّهم يحبّون الله تعالى محبّة الألوهيّة لِمَا هو عليه من كمال الألوهية وعمومها إلاّ أنهم مختلفون في هذه المرتبة ، منهم مَن أحبّ الله تعالى مع معرفتهم بألوهيته كاليهود مثلا ، ومنهم مَن أحبّ الله تعالى غلطا منه بنسبة الألوهية لغيره إلاّ أنّ الحقّ سبحانه وتعالى تجلّى لهم في تلك الألباس لكمال ألوهيته فأحبّوه وعبدوه مِن حيث لا يشعرون ، فلولا أنّه تجلّى لهم في تلك الألباس وجَذَبَهُم بذلك التجلّي إلى محبّةً ألوهيته ما كانوا يلتفتون إلى تلك الأوثان ولا أنْ يلمّوا بها فضلا عن أن يعبدوها ، فَهُمْ محبّون لله عابدون له من حيث لا يشعرون ، وهذه العبادة هي المُعَبَّر عنها بالسجود كَرْهاً في الآية . قال سبحانه وتعالى : وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ، فكلّ عابد أو ساجد لغير الله في الظاهر فما عَبَدَ ولا سجد إلاّ لله تعالى لأنّه هو المتجلِّي في تلك الألباس وتلك المعبودات كلّها تسجد لله تعالى وتعبده وتسبّحه خائفة من سطوة جلاله سبحانه وتعالى ولو أنّها برزتْ لعبادة الخلق لها وبرزتْ لها بدون تجلِّيهِ فيها لتحطّمت في أسرع من طرفة عيْن لغيرته سبحانه وتعالى لنسبة الألوهية لغيره تعالى . قال سبحانه وتعالى لكليمه موسى عليه الصلاة والسلام : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ، والإله في اللغة هو : المعبود بالحقّ . وقوله : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا : يعني لا معبود غيري وإن عَبَدَ الأوثانَ مَنْ عَبَدَهَا فما عبدوا غيري ولا توجّهوا بالخضوع والتذلل لغيري بل أنا الإله المعبود فيهم ، هذا معنى قوله تعالى : لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي على هذا المنوال ، يريد إيّاك أنْ تعتقد ما يعتقده الجهّال مِن أنّهم يعبدون غيري أو أنّهم يتوجّهون لغيري ، فالمحبّة لهؤلاء حافظة لهم لأنَّهُمْ محبوبون عنده وتوجّهوا إليه بهممهم وما توجهوا لغيره سبحانه وتعالى . فهذه محبّة الخلق لله تعالى فهي على مراتب بحسب مشاربهم ، محبّة الذات ومحبّة الآلاء ثمّ محبة الإيمان ثم محبّةً الألوهيّة وهي التي فيها الكفّار ، فهذه المراتب هي محبّةً الخلق لله تعالى .
ثمّ قوله تعالى بأمره لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم : فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ، وكلّ طائفة تبعته في المحبّة على مقدارها ، فالذين لهم محبّةً الذات اتّبعوه واقتدوا في الاتّصاف بالأحوال العليّة والأخلاق الإلهيّة والصفات القدسيّة التي لا تُدرَك إلاّ ذوقا ولا ينالها إلاّ أهل محبّة الذات وأهلُها هُمُ الصفوة العليا عند الله تعالى ، فهذا اقتداء الطائفة الأولى به صلّى الله عليه وسلّم . يحببكم الله في هذه المرتبة هو أنّه يمنحهم الله سبحانه وتعالى من تجلّياته العيانيّة ومواهبه العرفانيّة وجذْبهم إليه جذْبا كليّا حتّى لا يبقى فيهم بقيّة لغيره ، أمّا ما يمنع هؤلاء من العطايا والمنح فلا يُذكَر ولا تُدرَك له غاية ولا يُعرَف له تقدير لقوله : يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ .
وأمّا الطائفة الثانية الذين أحبّوه لآلائه ونعمائه ومقتضى ذلك هو الشكر لله تعالى فهؤلاء اقتدوا به صلّى الله عليه وسلّم واتّبعوه في مقام الشكر حيث قيل له في قيام الليل : « أتفعل هذا وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، فقال : أفلا أكون عبدا شكورا » ، وقال صلّى الله عليه وسلّم : « أحبّوا الله لِمَا يغذّيكم به من نعمه وأحبّوني بحُبِّ الله وأحبّوا أهل بيتي لحبّي » ، فدلّ صلّى الله عليه وسلّم كما دلّت الأنبياء قبله على محبّةً الله تعالى لآلائه ونعمائه ، فهذا وجهُ الدلالة ، ولم يَدُلْ على المحبّة الأولى وهي محبّة الذات لعِلْمِهِ أنّ تلك موهبة من فيوض الحقّ سبحانه وتعالى ليس للخلق فيها تعمّل فلذلك لم يدل عليها ، وهكذا جميع الرسل ما دلّت على المحبّة الأولى لأنّها ليست من تعمّل الخلق . وقوله : يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ في هذه الطائفة فإنّه يَهَبُهُمْ في الدّار الآخرة مِن جزيل الثواب وعلوّ الدرجات ما لا تنتهي إليه الأفكار ، إذ يكون في بعض المؤمنين مَن له في الجنّة من الحور ما يزيد على عدد الملائكة بأضعاف مضاعفة ولكلّ حوراء من الخدمة سبعون ألف جارية ولكلّ حوراء قصر مخصوص بها في الجنّة ، وهذا للرجل الواحد من المؤمنين بِهِبَه سبحانه وتعالى شكرا لجزاء أعماله ، قال تعالى : وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ، وقال تعالى : وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ، وهذا معنى قوله تعالى : يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ، محبّة كلّ طائفة على قدر مرتبتها .
وأمّا محبّة أهل الإيمان فقال سبحانه وتعالى في حقّهم : وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إلى قوله : وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ، فهذا معنى محبّته لهم سبحانه وتعالى ، وهؤلاء اتّبعوه صلّى الله عليه وسلّم في مرتبة الإيمان والمحافظة على بعض الفرائض ، وإنْ وقعوا في بعض المخالفات فمَا خرجوا عن متابعته صلّى الله عليه وسلّم ، ومحبّة الحقّ لهم هو ما جازاهم به في الجنّة ، وينتهون إلى رؤية وجهه الكريم ، فهذا معنى قوله : يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ .
وأمّا الطائفة الرابعة ، وهُمْ الكفّار ، فلا حظّ لهم في متابعته صلّى الله عليه وسلّم ولا يتوجّه لهم الخطاب ، يعني قوله : فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، هو لأهل المراتب الثلاثة وليس لأهل المرتبة الرابعة حظّ من هذا الخطاب .
وقولنا فيما تقدّم ” وَهُمْ داخلون في عموم هذه المحبّة ، أيّ الكفّار… إلى آخر العبارة ” ، يعارض هذا الذي ذكرناه أهلُ الظاهر في كونهم وَقَعَ النصّ على الكفّار في كتاب الله أنّهم أعداء الله تعالى بقوله : لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ، وقوله : ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ . والجواب عن هذا : أنّ الخلق كلّهم جملة وتفصيلا على المشيئة الإلهيّة كان بُرُوزُهُمْ ، ما خرجتْ منهم ذرّة عن هذا المنوال ، وليست محبّة الله في الوجود إلاّ تفصيل مشيئته وتخصيصها ، وقد كنّا قدّمنا أنّ المحبّة المعهودة في حقّ الخلق مِنْ شدّة الولوع بالشيء وشدّة التعشّق وشدّة الميْل إلى الاتّصال بالمطلوب وما يتبع ذلك مِنَ الشغف والاحتراق بالشوق ، كلّ ذلك مستحيل على ذات الله تعالى أنْ يحلّ فيها هذا الأمر لقيام البراهين القطعية على نزاهة ذاته المقدّسة على هذا المنوال ، ويطول جَلْبُ تلك البراهين ، والمانع في ذاته المقدّسة عن هذا أمورٌ : الأوّل مِنْ شدّة الولوع بالشيء وشدّة الشغف به وطلب الاتصال به أنّ الداعي لذلك هو الافتقار إلى ذلك الشيء المحبوب وتحصيل المنفعة به أو دَفْع المضرّة به ، والذاتُ المقدّسة غنيّة عن هذا إذْ هو الغنِيّ عن العالمين فلا يحلّ به شيء من هذا .
والأمر الثاني ما عليه ذاته المقدّسة من العظمة والكبرياء والعزّ والجلال والعلوّ ، وكلّ هذه الصفات ذاتيّة ، وكلّ هذه الصفات اقتضت لذاته العليّة أن لا يوجد شيء معها فضلا على أن تحتاج إلى شيء .
والأمر الثالث نزاهة ذاته العليّة عن تعاقب الأحوال عليها فلا يطرأ عليها التغيّر في لحظة من اللحظات بل هي على وصفٍ قائمٍ بها لا تنفكّ عنه ولا تتغيّر عنه بحال ، ولذا يقول صلّى الله عليه وسلّم في الحديث : « أعوذ برضاك من سخطك » وأراد صلّى الله عليه وسلّم بالرضا ما عليه ذاته المقدّسة من الصفات الذاتيّة المتقدّمة وكمال الغِنَى فيها عن جميع العالمين فإنّه وَصْفٌ ذاتيٌّ لها وهو مستحيل الانتقال والزوال ، ولذا استعاذ به صلّى الله عليه وسلّم إذ لو كان يصحّ انتقاله وزواله لَكُنَّا نقول في بعض الأوقات يوافق زوال ذلك الشيء منها فلا تكون مقيّدة له لعدم وجود ما استعاذ به فيها ، فلمّا كان مستحيل الزوال والانتقال استعاذ به صلّى الله عليه وسلّم ، ولمّا كان السخط من الله لا وجود له في ذاته إنّما هو من صفات الفعل فقط استعاذ منه صلّى الله عليه وسلّم لأنّه صحيح الانتقال والزوال لكونه من صفات الفعل لا من صفة الذات ، فإنّ الذات في غاية الرضا على أبد الأبد في حقّ المؤمن والكافر .
ولعلّ المعارض في هذا يقول : ” فما وقع في الأخبار من ذِكْرِ سَخَطِ الله تعالى وغضبه في الآيات البيّنات كقوله تعالى في قاتل النفس : وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ يعني لِقَتْلِهِ النفس بغير حقّ ، وكقوله في حقّ الكافرين : إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ، وأمثال هذه الآية كثيرة ” .
والجواب عن هذا : أنّ تلك العقوبات منه سبحانه وتعالى لم تكن لإشفاء غَيْظٍ ولا لِلُحُوقِ حِقْدٍ في ذاته أو غِلٍّ ، فإنّ الذات المقدّسة منزّهة عن هذا وإنّما تلك كمالاتُ أُلُوهِيَّته ، فالألوهيّة لها وصْفان ، وَصْفٌ هو لجنود الحقّ والنور والسعادة ، والوصف الثاني جُنْدُ الظلام والباطل والشقاوة ، فكلّها كمالاتُ ألُوهِيَّتِهِ سبحانه وتعالى وتعلّقات مشيئته لا يخرج شيء عن هذا المنوال . وما أُطْلِقَ في الكفّار منَ العداوة والغضب والسخط فإنّما أحوالٌ اقتضتْهَا كمالاتُ الألوهيّة تتعاقب عليهم لا أنّها أمورٌ قائمةٌ بذاته ، فإنّما هي من صفاتِ الفعل فقط .
والأمر الرابع من أمور الذات المانع من شدّة الميل إلى الخلق واستحالة مشابهتها للحوادث لو حلّ فيها الشوق والشغف والولوع بالشيء لَمَاثَلَتْ الحوادث وصارت حادثة مثلها وهو محال ، فتعيّن من هذا أنّ الذات مقدّسة عن هذا كلّه ، لا يحبّ شيئا ولا يبغض شيئا ، فلم يبق إلاّ تصرف مشيئته وتعلّقها بالموجود إذ كلّ ما تعلّقت المشيئة به هو محبوب لله لأنّ المحبّة هي عين الإرادة متى أحبّ الشيء أراده ، والإرادة عين المشيئة . فإذا عرفتَ هذا عرفتَ أنّ كلّ ما في الكون محبوب لله تعالى لأنّه مراده ، كافرُهم ومؤمنُهم ، إذ لولا تَعَلُّقُ إرادته بهم ما أوْجدَهم . قال سبحانه لسيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام ، حين طلبه إهلاكَ قارون ، قال له : إنّي جعلتُ الأرض أن تطيعك فافعل بها ما تريد ، فدخل عليه دار الذهب وحوله عظماء بني إسرائيل ممّن كان يعظّمه لدنياه ، فقال لهم سيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام : مَنْ كان لي فليخرجْ ومَنْ كان لقارون فليثبت معه ، فخرج الناس كلّهم متبرّئين من قارون إلاّ قليلا ، فقال عليه الصلاة والسلام : يا أرضُ خُذِيهم ، وكان على كرسيّ عظيم من الذهب ، فلمّا رأى الأرض أخذتْ تبتلع الكرسيّ ، وكان الملعون عالما بالأمر ليس جاهلا به ، عَلِمَ أنّ أمر الله لَحِقَهُ كما لَحِقَ الكفّار فتاب فلم يجد للتوبة سبيلا ، فقال له : يا موسى ناشدتكَ الله والرحم ، فلم يلتفتْ له ولا اكترثَ به وهو يقول ، عليه الصلاة والسلام : يا أرض خذيهم ، حتّى أكمل قارون سبعين مرّة وهو يناشده بالله والرحم والكليم عليه الصلاة والسلام يقول : يا أرض خذيهم ، فعند كمال السبعين ابتلعته الأرض وغاب فيها بكرسيّه ، فإلى الآن يتجلجل فيها إلى قيام الساعة لا يبلغ قعْرها إلى النفخ في الصور . فعاتبَ الله موسى عليه الصلاة والسلام عتابا شديدا ، قال له سبحانه وتعالى : يستغيث بك سبعين مرّة فلم تُغِثْهُ ولو استغاث بي مرّة واحدة لأغثتُه ، ثمّ قال الحقّ لموسى : هل تدري لِمَ لَمْ ترحمْه ؟ لأنّك لم تخلقْه ولو خلقتَه لرَحمْتَهُ . ثمّ قال له : وعزَّتي وجلالي لا جَعَلْتُ الأرض بعدك طوعا لأحدٍ . فَوَجْهُ الشاهد قَوْل الحقّ سبحانه وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام : لأنّك لم تخلقْه ولو خلقتَه لرَحمتَه . وقد رُوِيَ أنّ قارون سمع يونس عليه الصلاة والسلام حين أُلْقِىَ في بطن الحوت وهو يستغيث ، فسال قارونُ الملائكةَ الموكَّلين بعذابه أنْ يتركوه حتّى يسأل سيدنا يونس عليه السلام فتركوه ، فناداه : يا يونس ، ما الذي بلغ بك إلى هذا الحال؟ قال له عليه السلام : ذنوبي ، قال له قارون : إرجعْ إلى مولاك في أوّل قَدَمٍ تجده ، قال له يونس : فما لك أنت لم تتبْ إلى الله تعالى ؟ قال له : رجعتُ إلى الله على قَدَمِ الصدق لكن توبتي وُكِّلَتْ إلى ابن خالتي موسى فلمْ يقبلْها . فدلّ هذا على أنّ الخلق كلّهم محبوبون لله تعالى ، مؤمنُهم وكافرُهم . وأيضا لأجل أنهم مظاهر ألوهيّته سبحانه وتعالى خَلَقَهُمْ لِيَظْهَرَ فيهم بكمالات الألوهية ، ولذا يقول أهل الحقائق : لمْ يخلقْ خلقا عبثا سبحانه وتعالى ، يريدون أنّه ليس ثَمَّ مخلوق لله تعالى مجرّد عن الفائدة لأنّهم مظاهر أحكامه وألوهيّته . فبان لك بما قرّرناه أنّ الخلق كلّهم محبوبون لله تعالى ، ولا يُلْتَفَتُ لأبحاث أهل الظاهر مِن قصور أفهامهم فإنّ هذه مِنْ علوم العارفين ليس لأهل الظاهر فيها مجال .
وقد استدلّ شيخنا رضي الله عنه فيما ذَكَرَهُ في شَرْحِ هذه الآية المتقدّمة مِنْ أنّ الكفّار داخلون تحت حيطة محبّة الله تعالى ورحمته بقوله سبحانه وتعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية . قال رضي الله عنه معناه : فسأكتبها خالصة من العذاب للذين يتّقون ، دلّت الآية على أنّ خَلْقَ الله قِسْمَانِ هنا وهناك ، قِسْمٌ مُعَذَّبٌ مَرْحُومٌ وقِسْمٌ مَرْحُومٌ فقط لا عذابَ عليه . أمّا القسم المرحوم المُعَذَّب قال سبحانه وتعالى : عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، وأمّا الصنف الثاني الذي هو مرحوم بلا عذاب فقال سبحانه وتعالى في حقّهم : فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الآية . وما ورد في قوله تعالى ممّا يُنَاقِضُ عموم الرحمة في قوله سبحانه وتعالى : والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب اليم ، فالرحمة في هذه الآية التي يئسوا منها هي الجنّة فقط ، فإنّها مُحرّمَة على كلّ كافر ، وليست الجنّة هي غاية رحمة الله تعالى ، فإنّ رحمة الله تعالى لا تحيط بها العقول ، يرحم الكفّار حيث يشاء . وقد ذَكَرَ بعضُ أهل الحقائق أنّ بعضَ أحوالِ الرحمة في أهل النار مِنَ الكفّار أنّهم يُغْمَى عليهم في بعض الأوقات فيكونون كالنائم لا يُحِسُّونَ ألِيمَ العذابِ ثمّ تُحْضَرُ بين أيديهم أنواع الثمار والمآكل فيأكلون في غاية أغراضهم ، ثمّ يفيقون من تلك السكرة فيرجعون إلى العذاب ، فهذا من جملة الرحمة التي تنال الكفّار ، والسلام .
تكميلٌ لِمَا تقدّم من تقسيم مراتب المحبّة وأهلها الذين سبقوا في صدر الآية ، قال سيّدنا رضي الله عنه : محبّةً الله على أربعة مراتب . الأولى : محبّةً الإيمان وقد تقدّم الكلام عليها ، والثانية : محبّةً الآلاء والنعماء لخواصّ المؤمنين ، وتقدّم الكلام عليها أيضا ، والثالثة : محبّةً الصفات ، وأهلها هُمُ المُسَمُّون عند العامّة بالأولياء وهُمُ الأكثرون في النفع للعامّة ، والرابعة : هي محبّةً الذات ، وأهلُها هُمُ الصدّيقون عند الصحو والبقاء ، وقد تقدّم الكلام عليها . وبقي الكلام على محبّة الصفات التي هي مرتبة الأولياء ، وأهلُها دَأَبُوا على خدمة الله تعالى والتوجّه إليه بقلوبهم لأجل ما هو عليه مِنْ محامد الصفات إلاّ أنّهم تعلّقوا بالصفات الفعليّة كالخلاّق والرزّاق والوهّاب وأمثالها ، فَهُمْ ملتحقون بالطائفة الثانية إلاّ أنّهم أرفع منهم ، ومنهم طائفةٌ تعلّقوا به لِمَا هو عليه من صفات كرمه ومجده وحمده فهؤلاء أصحاب التعلّق بالصفات إلاّ أنّ معهم بقيّة مِنْ ملاحظة العطاء منه سبحانه وتعالى وهو ضَرْبٌ مِنْ محبّة الآلاء والنعماء ، وطائفة تعلّقوا به ودَأَبُوا على خدمته لِمَا هو عليه من الصفات الذاتيّة وهي الكبرياء والعظمة والعزّ والجلال والعلوّ ، والمتعلّقون بهذه الصفات محبّةً وخدمةً معهم رشحةٌ مِنْ محبّة الذات فإنّ هذه صفات الذات الأصلية فلا حظّ فيها لمخلوق إنّما الصفات التي يكون بها مُفِيضًا لخلْقه هي اللطف والخلق والرزق والهِبَاتُ والعفو والكرم وأمثالها ، فالمتعلّقون بها مُطالِبون بعطائه ومَنِّهِ ، والمتعلّقون بالصفات الذاتيّة لم يريدوا منه شيئا مثل العظمة والكبرياء والعزّ والجلال والعلوّ لأنّ هذه الصفات متى برزت للعيان امتحق المشاهد تحتها للقهر الذي يلزمه ، فإنّه لا يُطِيقُ أحدٌ من الخلق مطالعة عظمته وجلاله وعلوّه وكبريائه وعزّه ، ولذا يُسحق ويُمحق المشاهد تحتها ، فلو سُئِلَ المتعلّق بها مثلا : لماذا تخدم ربّك وتنقطع إليه ؟ لقال : لِمَا هو عليه من العظمة والكبرياء لا لينالني منه شيء ، فإنّ معهم رشحة من محبّة الذات ، وبعد هذا محبّة الذات وهي للصدّيقين ومَنْ وراءهم من المرسلين والملائكة والنبيّين والأقطاب .
ثمّ قال رضي الله عنه : وبيان التدريج في هذه المراتب المذكورة ، فصاحبُ محبّة الإيمان إذا أدام التوجّه بها إلى الله تعالى ولازَمَ قلبُه ذلك انتقل منها إلى محبّة الآلاء والنعماء لأنّها أعلى منها ، وصاحب محبّة الآلاء والنعماء إذا دام التعلّق بها والتوجّه إلى الله بالقلب على طريقها انتهت به إلى محبّة الصفات فانتقل إليها حينئذ ، وهي أعلى منها ، وصاحب محبّة الصفات إذا أدام التوجّه بها إلى الله تعالى واستقام سَيْرُهُ وسلوكُه انتقل منها إلى محبّة الذات ، وهي الغاية القُصْوَى . ومتى وصل إلى محبّة الذات ، أعني أنّه يشمّ رائحةً منها فقط ، انتقل إلى الفناء مرتبة بعد مرتبة ، فيكون أمْرُهُ أوّلا ذهولا عن الأكوان ، ثمّ سُكْرًا ، ثمّ غيبةً وفناءً مع شعوره بالفناء ، ثمّ إلى فناء الفناء ، وهو أنّه لم يحسّ بشيء شعورا وتهمّما وحسّا واعتبارا ، وغاب عقله ووهمه وانسحق عدده وكَمُّهُ ، فلم يبقَ إلاّ الحقّ بالحقّ للحق في الحقّ ، وهو مقام الفتح والبداية ، يعني بداية المعرفة ، وصاحبه إذا أفاق مِنْ سكرته يأخذ في الترقّي والصعود في المقامات إلى أبَدٍ بلا نهايةٍ . اهـ .
تنبيه وبيان في الاستدلال على أنّ الكفّار محبوبون ومرحومون كما سبق في شرح قوله تعالى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ الآية إلى أنْ قال شيخنا رضي الله عنه : وفي هذه المحبّة جميع العوالم حتّى الكفار ، فإنّهم محبوبون عنده إلى آخر ما ذَكَرَ في حقّهم ، ثم قال رضي الله عنه مستدلا على قوله : الطهارة طهارتان : طهارةٌ أصليّةٌ وطهارةٌ عَرَضِيَّةٌ .
فالطهارة الأصليّة هي في جميع الموجودات جُمْلَةً وتفصيلا ، منزعها ومحتدها مِنْ سرّ اسمه القدّوس ، فإنّ اسمه مُتَجَلٍّ في كلّ ذرّة مِنَ الوجود ، والقدّوس هو الطاهر الكامل من جميع النقائص . يقول في الأسماء الإدريسيّة : ( يا قدّوس الطاهر من كلّ سوء ) ، فلا شيء يعازه من جميع خلقه بلطفه ، فما في الوجود إلاّ طاهرٌ كاملٌ لتجلّي اسمه القدّوس على كلّ ذرّة ، فكلّ ما خَلَقَهُ تجلّى فيه باسمه القدّوس ، فلو وقع التنجيس في ذرّة من الوجود لوقع النقص في صفاته الكاملة وهي القدّس عن جميع النقائص وبه يلزم تعطيل الألوهيّة ، والألوهيّة شاملةٌ لكلّ ذرّة لأنّ الألوهيّة هي المرتبة الجامعة المحيطة لله تعالى في جميع الموجودات ، فما في الوجود إلاّ داخل تحت الألوهيّة بالخضوع والتذلّل والعبادة والتسبيح والسجود ، فلو تنجّستْ ذرّة واحدة ما صحّ لها أنْ تتوجّه لعبادته والسجود له وتسبيحه ، فالطهارة شاملة لها من حيث حيطة الألوهيّة وتَجَلِّي اسمِه القدّوس على جميعِها ، فهذه هي الطهارة الأصليّة ، ومعنى تَجَلِّي اسمِه القدّوس على جميعها فسيطلبُ كيفية ذلك مَنْ لاَ فَهْمَ له مِنْ أهل الظاهر . وكيفية ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم : « إنّما قام الوجود كلّه بأسماء الله الظاهرة والباطنة » ، ومعنى ذلك فما في الوجود ذرّة فما فوقها ممّا دَقَّ أوْ جَلَّ فردا فردا إلاّ انبسط عليها نورُ اسْمٍ مِنْ أسماء الله تعالى ، ولولا ظهور ذلك النور عليها وانبساطه عليها لَمَا ظهرتْ للوجود ولَبَقِيَتْ في طَيِّ العدم ، فلا يشترك موجودان في اسمٍ واحدٍ و لا يكون لِذرّةٍ منها اسمان في ذات واحدة ، فانبساط أنوار الأسماء الإلهيّة ظَهَرَ على كلّ ذرّة من الوجود عظيمها وحقيرها ، فما في الوجود كلّه إلاّ ظهور الأسماء الإلهية بأنوارها وبواسطة ذلك النور ظهرت الموجودات . فإذا عرفتَ هذا وعرفتَ أنّ الوجود قام كلّه بأسماء الله تعالى ، والأسماء الإلهيّة داخلةٌ تحت حيطة الألوهيّة ، وكلّ الأسماء الإلهيّة تجلّى عليها باسمه القدّوس فإنّ القدّوس من أسماء الذات ، فالقدّوس تتّصف به الذات والصفات والأسماء ، فالحقّ سبحانه وتعالى قدّوس في ذاته قدّوس في صفاته قدّوس في أسمائه ، والوجود كلّه أعيان الأسماء وسرّ اسم القدّوس مُتَجَلٍّ عليها ، فهذا معني تجلّي اسمه القدوس على جميع الوجود ، وهي الطهارة الأصيّلة التي قلنا ، وهذا الكلام من علوم العارفين لا مدخل فيه لأهل الظاهر .
وأما الطهارة العَرَضِيَّة هي ما نصَّ عليه سبحانه وتعالى في شرعه ، وهي قوله : إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ، وما دلّت عليه الرسل من اتّقاء الأشياء المُنْجِسَة ، يعني المحكوم بنجاستها شرعا لا أصلا عند العبادة فإنّ نجاستها عارضة ليست ذاتيّة لأنّها باقيّة ببقاء الشرع الذي هو مقتضى الأمر والنهي ، فإذا نُفِخَ في الصور وزال حُكْمُ الشرع انتقلتْ الأشياء كلّها للطاهرة الأصليّة ، فالشرع عارضٌ ، بقاؤُه ببقاء هذه الدار ، فإذا نفخ في الصور زال الشرع وانتقلت الأشياء إلى أصلها فلم يبق تكليف . وأمّا مَنْ حَقَّ عليه العذاب مِنَ الكفرة فإنّما هو عَرَضٌ فيهم والأصل الرحمة والمحبّة ، فَهُمْ محبوبون مرحومون وإنْ وقع فيهم ما وقع ، قال سبحانه وتعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ، وقال : إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ، فإنّ الكفرة وقعت عليهم صفة الإرادة والكلمة العظيمة من الحقّ وهي كُنْ ، فما وقعتْ إلاّ على محبوبِ مُرَادِ لله تعالى ولهم سعة الرحمة التي وسعت كلّ شيء وإنْ وقع فيهم ما وقع فإنّما تلك أحكام حيطة ألوهيّته ، فما في الخلق عنهم من نعيم وعذاب وراحة وبلاء ورحمة وانتقام كلّها أحكام الألوهيّة المحيطة فليس لغيره سبحانه وتعالى فيها شيء . فالأصل حينئذ الرحمة والمحبّة في كلّ موجود ، وعلى هذا الحدّ يتنزّل قوله تبارك وتعالى : إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ شملت المؤمن والكافر لأنّهم من الناس ، وقوله جلّ وعلا : وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ إلى قوله: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا وهي شاملة للمؤمن والكافر ، فهذا هو الأصل ، وما في قوله جلّ جلاله وعزّ كماله : إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله سبحانه وتعالى : إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ إلى قوله: أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيئَةِ فإنّما هذه أحكام الألوهية طرأت عليهم وهي عارضة ، والأصل الأوّل ، قال صلّى الله عليه وسلّم في طابع الوجود : « إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه أختار منهم بني آدم » ، هذا حديث صحيح ، وهذا الاختيار يشمل من بني آدم مؤمنهم وكافرهم ، وهذا هو الأصل وهي المحبّة والرحمة والتكريم الذي ذَكَرَهُ في الآية هو الأصل وما طرأ عليه بعد ذلك عوارض ستزول ويكون الرجوع إلى الأصل ، والسلام . إنتهى ما أملاه علينا سيّدنا رضي الله عنه .

من كتاب جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض أبى العباس التجاني

تأليف العارف بالله سيدي
الحاج علي حرازم براده

رضي الله عنهما وعنا بهما آمين