من كتاب قواعد التصوف، ألفه أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد زروق، وقد جمع فيه بين الشريعة والحقيقة، كما وصل فيه بين الأصول والفقه بالطريقة، ومؤلفه علم من أعلام الصوفية، وإمام من أئمة أهل الحقيقة، قد حاز قصب السبق في علمي الشريعة والحقيقة
الكلام في الشىء فرع تصور ماهيته وفائدته بشعور ذهني مكتسب أو بديهي ليرجع إليه في أفراد ما وقع عليه زادا وقبولا وتأصيلا وتفصيلا
فلزم تقديم ذلك على الخوض فيه، إعلاما به، وتحضيضا عليه وإيماء مادته. فافهم
ماهية الشىء حقيقته،وحقيقته ما دلت عليه جملته، وتعريف ذلك بحد وهو أجمع، أو رسم وهو أوضح، أو تفسير وهو أتم لبيانه، وسرعة فهمه
وقد حد التصوف ورسم وفسر بوجوه تبلغ نحو الألفين، مرجع كلها لصدق التوجه إلى الله تعالى، وإنما هي وجوه فيه، والله أعلم
الإختلاف في الحقيقة الواحدة، إن كثر، دل على بعد إدراك جملتها. ثم هو إن رجع لأصل واحد، يتضمن جملة ما قيل فيها، كانت العبارة عنه بحسب ما فهم منه، وجملة الأقوال واقعة على تفاصيله. واعتبار كل واحد على حسب مناله منه علما، أو عملا، أو حالا، أو ذوقا أو غير ذلك
والإختلاف في التصوف، من ذلك، فمن ثم ألحق الحافظ أبو نعيم رحمه الله- بغالب أهل حليته عند تحليته كل شخص- قولا من أقواله يناسب حاله قائلا. وقيل: إن التصوف كذا
فأشعر أن من له نصيب من صدق التوجه، له نصيب من التصوف، وأن تصوف كل أحد صدق توجهه. فافهم
صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما وبما يرضاه ولا يصح مشروط بدون شرطه – ولا يرضى لعباده الكفر- فلزم تحقيق الإيمان -وإن تشكروا يرضه لكم- فلزم العمل بالإسلام
فلا تصوف إلا بفقه، إذ لا تعرف أحكام الله الظاهرة إلا منه
ولا فقه إلا بتصوف، إذ لا عمل إلا بصدق وتوجه
ولا هما إلا بإيمان، إذ لا يصح واحد منهما دونه، فلزم الجميع، لتلازمها في الحكم، كتلازم الأرواح للأجساد. ولا وجود لها إلا فيها، كما لا حياة لها إلا بها. فافهم
ومنه قول مالك رحمه الله (من تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن تفقه ولم يتصوف، فقد تفسق، ومن جمع بينهما فقد تحقق) قلت تزندق الأول لأنه قال بالجبر الموجب لنفي الحكمة والأحكام. وتفسق الثاني لخلو عمله من التوجه الحاجب منهما عن معصية الله ومن الإخلاص، المشترط في العمل لله. وتحقق الثالث، لقيامه بالحقيقة في عين التمسك بالحق، فاعرف ذلك
إسناد الشىء لأصله والقيام فيه بدليله الخاص به يدفع قول المنكر لحقيقته. وأصل التصوف مقام الإحسان الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم ب (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) لأن معاني صدق التوجه لهذا الأصل راجعة، وعليه دائرة، إذ لفظه دال على طلب المراقبة الملزومة به
فكان الحض عليها حضاعلى عينه، كما دار الفقه على مقام الإسلام والأصول على مقام الإيمان. فالتصوف أحد أجزاء الدين الذي علمه عليه السلام جبريل، ليتعلمه الصحابة رضي الله عنهم
الإصطلاح للشىء، مما يدل على معناه ويشعر بحقيقته ويناسب موضوعه ويعين مدلوله من غير لبس ولا إخلال بقاعدة شرعية ولا عرفية، ولا رفع موضوع أصلي ولا عرفي، ولا معارضة فرع حكمي، ولا مناقضة وجه حكمي، مع إعراب لفظه وتحقيق ضبطه لا وجه لإنكاره
واسم التصوف من ذلك،لأنه عربي مفهوم تام التركيب، غير موهم ولا ملتبس ولا مبهم
بل اشتقاقه مشير بمعناه كالفقه لأحكام الإسلام والأعمال الظاهرة والاصول لأحكام الإيمان وتحقيق المعنى
فاللازم فيهما، لازم فيه، لاستوائهما في الأصل والنقل
الإشتقاق قاض بملاحظة معنى المشتق والمشتق منه. فمدلول المشتق مستشعر من لفظه، فإن تعدد الشعور، ثم إن أمكن الجمع، فمن الجميع، وإلا فكل يلاحظ معنى. فافهم، إن سلم عن معارض في الأصل
وقد كثرت الأقوال في اشتقاق التصوف وأمس ذلك بالحقيقة
خمسة
الأول: قول من قال: الصوفة لأنه مع الله كالصوفة المطروحة لا تدبير له
الثاني: أنه من صوفة القفا للينها فالصوفي هين لين، كهي
الثالث: أنه من الصفة إذ جملته اتصاف بالمحاسن وترك الأوصاف المذمومة
الرابع: أنه من الصفاء وصحح هذا القول حتى قال أبو الفتح البستي رحمه الله
تنازع الناس في الصوفي واختلفوا وظنه البعض مشتقا من الصوف
ولست أمنح هذا الإسم غير فتى صفي فصوفيَ حتى سمي الصوفي
الخامس: أنه منقول من الصفة لأن صاحبه تابع لأهلها فيما أثبت الله لهم من الوصف حيث قال تعالى (يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) وهذا هو الأصل الذي يرجع إليه كل قول فيه. والله أعلم
حكم التابع كحكم المتبوع فيما تبعه فيه وإن كان المتبوع أفضل. وقد كان أهل الصفة فقراء في أول أمرهم، حتى كانوا يعرفون بأضياف الله
ثم كان منهم الغني والأمير، والمتسبب والفقير، لكنهم شكروا عليها، حين وجدت، كما صبروا عليها حين فقدت. فلم يخرجهم الوجدان عما وصفهم مولاهم به من أنهم (يدعونه بالغداة والعشي يريدون وجهه). كما أنهم لم يمدحوا بالفقدان، بل بإرادة وجه الملك الديان، وذلك غير مقيد بفقر ولا غنى، وبحسبه
فلا يختص التصوف بفقر ولا غنى، إذا كان صاحبه يريد وجه الله فافهم