سُئِلَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ سَيِّدِي أَحْمَدُ التِّجَانِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ…

0
994

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ”
وَفِي رِوَايَةٍ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ، تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ يَكْرَهُ المَوْتَ، وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَائَاتَهُ.
وَقَدْ سُئِلَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ سَيِّدِي أَحْمَدُ التِّجَانِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ كَمَا جَاءَ فِي الجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ “الجَامِعِ لِدُرَرِ العُلُومِ الفَائِضَةِ مِنْ بِحَارِ القُطْبِ المَكْتُومِ”، لِلْعَلَّامَةِ سَيِّدِي مُحَمَّدٍ بْنِ المَشْرِي السُّبَاعِي الحَسَنِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَجَابَ سَيِّدُنَا الشَّيْخُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:

مَعْنَاهُ أَنَّ العَبْدَ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ، وَالنَّوَافِلُ هُوَ مَا زَادَ عَلَى الفَرَائِضِ المَعْلُومَةِ، وَأَفْضَلُ النَّوَافِلِ الَّتِي يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، الذِّكْرُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ بِشُرُوطِهِ، فَهُوَ أَعْظَمُ النَّوَافِلِ وَأَحَبُّهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ: لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ. وَالمُرَادُ بِالنَّوَافِلِ هَا هُنَا، بِقِيَامِ رُوحِهَا فِي السُّلُوكِ، وَرُوحُ الأَعْمَالِ فِي السُّلُوكِ هُوَ عَمَلُهَا خَالِصَةً لِلَّهِ، لَا لِحَظٍّ عَاجِلٍ أَوْ آجِلٍ؛ بَلْ يُرِيدُ الخُرُوجَ بِهَا إِلَى اللَّهِ مَحْضًا مِنْ جَمِيعِ حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ وَمُتَابَعَةِ هَوَاهُ، فَالعَبْدُ فِي هَذِهِ المَرْتَبَةِ، بِمَنْزِلَةِ الشَّخْصِ المُلَطَّخِ بِالنَّجَاسَاتِ، وَتِلْكَ النَّجَاسَاتُ شَدِيدَةُ الإِلْتِصَاقِ فِي ذَاتِهِ، فَهُوَ يَسْعَى فِي زَوَالِ النَّجَاسَاتِ عَنْ ذَاتِهِ، لِيَخْرُجَ إِلَى اللَّهِ طَاهِرًا مُطَهَّرًا. فَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الحَالَةِ، وَهُوَ التَلَطُّخُ بِالنَّجَاسَاتِ، لَا يَلْتَفِتُ لِعَمَلٍ لِلثَّوَابِ، بَلْ يَشْتَغِلُ بِتَطْهِيرِ نَفْسِهِ،
فَلَا شَكَّ أَنَّ الرُّوحَ وَلَعَتْ بِالبُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاتَّخَذَ وَلُوعُهَا وَطَنًا وَمَسْكَنًا، وَصَعُبَ عَلَى العَبْدِ التَخَلُّصُ مِنْ هَذِهِ الوَرْطَةِ، فَأَخَذَ فِي تَخْلِيصِ نَفْسِهِ مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَإِنَّ مَرْتَبَةَ الرُّوحِ هَذِهِ تُسَمِّيهَا الصُّوفِيَةُ فِيهَا الغُرَابَ، لَا بَيَاضَ فِيهَا أَصْلًا بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ البُعْدِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَنَوَافِلُ العَبْدِ فِي هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ، هُوَ الرُّجُوعُ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ لِلَّهِ مَحْضًا لَا لِطَلَبِ الثَّوَابِ، فَهُوَ سَاعٍ فِي ذَلِكَ لِتَطْهِيرِ رُوحِهِ، مِمَّا اسْتَوْطَنَتْهُ مِنَ الوَلُوعِ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيَأْخُذَهَا بِالمُجَاهَدَةِ وَالمُكَابَدَةِ، وَالقَمْعِ عَنْ هَوَاهَا، وَمُزَاوَلَةِ المَأْلُوفَاتِ وَالشَّهَوَاتِ،
وَالمُعِينُ لَهُ عَلَى هَذِهِ المُجَاهَدَةِ هُوَ الذِّكْرُ عَلَى أَصْلِهِ، فَإِنَّهُ لَا تَخَلُّصَ لِلْعَبْدِ مِنْ وَرَطَاتِهِ إِلَى الصَّفَاءِ، الَّذِي يَدْخُلُ بِهِ إِلَى الحَضْرَةِ الإِلَاهِيَةِ القُدْسِيَّةِ، إِلَّا بِفَيْضِ الأَنْوَارِ مِنْ حَضْرَةِ القُدْسِ. وَفَيْضُ الأَنْوَارِ أَكْبَرُ مَا يَأْتِي بِهَا الذِّكْرُ، فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ العَبْدُ يَتَعَاهَدُ أَوْقَاتَ ذِكْرِهِ، ثُمَّ يَسْتَرِيحُ وَالأَنْوَارُ تُقْدَحُ فِي قَلْبِهِ وَقْتَ الذِّكْرِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهَا فِيهِ، لَكِنْ وُرُودُهَا عَلَيْهِ، يَعْمَلُ فِي رُوحِهِ شَيْئًا مِنَ الصَّفَاءِ، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَوَّلًا تُقْدَحُ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، تَمْكُثُ فِي القَلْبِ قَدْرَ الدَّقِيقَتَيْنِ أَوِ الثَّلَاثَةِ، ثُمَّ تَنْتَقِلُ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى، تَمْكُثُ فِي القَلْبِ قَدْرَ سَاعَةٍ
ثُمَّ تَنْتَقِلُ فَلَا يَزَالُ حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ حَتَّى تَسْتَقِرَّ الأَنْوَارُ فِي قَلْبِهِ، فَتُكْسِبَهُ حَالَةً لَمْ يَعْهَدْهَا مِنْ نَفْسِهِ، مِنَ القُوَّةِ عَلَى الذِّكْرِ، وَالحَنِينِ إِلَى الوُقُوفِ بِبَابِ اللَّهِ، وَتَوَجُّعِ القَلْبِ مِنْ مُخَالَطَةِ الخَلْقِ، وَمَا يُشَاهِدُهُ مِنْ تَخْلِيطَاتِهِمْ، ثُمَّ لَا يَزَالُ العَبْدُ بِاسْتِمْرَارِهِ مَعَ الذِّكْرِ، إِلَى أَنْ تَخْرُجَ بِهِ الأَنْوَارُ، إِلَى اسْتِغْرَاقِ أَوْقَاتِهِ فِي الذِّكْرِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَيَجِدَ فِي رُوحِهِ اكْتِسَابًا لَمْ يَعْهَدْهُ مِنَ الرِّضَا بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَالصَّبْرِ لِلْبَلَايَا، وَعَدَمِ الإِنْزِعَاجِ مِنْهَا، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي نَفَقَاتِهِ وَأُمُورِهَا، وَالبُعْدِ عَنِ التَّكَالُبِ عَلَى الدُّنْيَا وَاكْتِسَابِهَا،
ثُمَّ لَا يَزَالُ بِهِ الأَمْرُ حَتَّى يَطْمَئِنَّ بِذِكْرِ اللَّهِ، فَإِذَا اطْمَأَنَّ القَلْبُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، بِحَيْثُ يَصِيرُ الذِّكْرُ لَهُ وَطَنًا لَا يَقْدِرُ عَنِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ وَلَوْ لَحْظَةً، ذَاقَ بَاكُورَةَ أَهْلِ التَّحْقِيقِ، وَلَمَعَتْ لَهُ لَوَامِعُ مِنْ أَحْوَالِ الخَاصَّةِ العُلْيَا، وَيَشْهَدُ فِي نَفْسِهِ مِنَ القُرْبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَمْرًا عَظِيمًا، وَيَجِدُ فِي قَلْبِهِ مِنَ العُلُومِ الإِلَاهِيَةِ أَمْرًا جَسِيمًا، فَهُنَاكَ تَجَرَّدَ مِنْ كُلِّ مَخِيطٍ وَمُحِيطٍ، وَأَحْرَمَ بِالبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَى اللَّهِ وَصَلَّى عَلَى الأَكْوَانِ صَلَاةَ الجَنَازَةِ، وَدَخَلَ عَلَى اللَّهِ مِنْ بَابِ المُرَاقَبَةِ، يُفَتِّشُ فِي جَمِيعِ مَقَاصِدِهِ، فَلَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ قَصْدًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى…

العَلَّامَةُ سَيِّدِي أَحْمَدُ بْنُ العَيَّاشِي سُكَيْرِجٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ