الدَّهشة حين تأتيك من عالم المعاني تكون أذكى و أكثر تأثيراً ، و الدهشة صفعةٌ مجّانيّة تتحيَّن الحياةُ من حولنا فرصة منحنا إيّاها ، و كان رِزقي من الدَّهشة مرَّتي هذه من عبارة قالتها الأديبة أحلام مستغانمي في كتابها ” الأسود يليق بك ” ص 84 : ” إنَّ الفقير ثريٌّ بدهشته ؛ أمَّا الغني فقيرٌ لفرط اعتياده على ما يصنع دهشة الآخرين ” .
أعادتني لفتتها هذه عن [ دهشة الفقير ] و أنَّها من مصادر ثرائه إلى كلامٍ قاله الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي و هو يُشيد بصورةٍ من صُور ثراء الفقير فيقول كما في ” الأعمال الكاملة ” ص 158 : ” … إنَّ كثيراً من الفقراء لم تمتدَّ يدُ الفقرِ إلى رؤوسهم ، كما امتدَّت إلى جيوبهم ؛ فهُم يدركون كما يدرك الأغنياء ، و يفهمون كما يفهمون ، و كما أنَّ في أغنياء الجيوب فقراء الرؤوس ، كذلك في فقراء الجيوب أغنياء الرؤوس ” .
و لا عَجَب فيما قالا – مستغانمي و المنفلوطي – فها هو الأديب مصطفى صادق الرافعي في كتابه ” المساكين ” ص 62 : ” إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاء بطنه ، و لكنّه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره ” فيا لجمال الفقير الذي ثراؤه [ الدهشة ] و [ النَّباهة ] و [ دفقُ الشُّعور ] .
صحيحٌ أنِّي كنت أنوي الحديث عن [ الدَّهشة ] و ها أنذا أجدني في وسط المقالة ناصباً خيمة المعنى في رواق ” الفقير ” و إنِّي على ذلك لمُتِمّ و أبدأ الإتمام على ما سبق بمنثور القول من وعاء الفيلسوف اللاهوري الكبير محمد إقبال ، فقد كان رحمه الله يرى أنَّ ” الفقير بدناً هو الأمير روحاً ” و يرى أنَّ فقر الاضطرار – ذلك أنه لا يختار الفقر اختيارا إلا أرباب الزُّهد السلبي – : ” الفقر سيفٌ بيدِ حُرٍّ ” و بنى رأيه هذا على قاعدةٍ قال فيها ” الاستغناء ملوكيّة ” أي أنَّ الفقير قادرٌ على الاستغناء لمحلِّ فقده .
و يرفع إقبال سقف القيمة الجوهرية للفقير فيقول ” فقرُ الكفرِ صامتٌ كالجماد في حين أنَّ فقر المؤمن تعميرٌ للوجود ” ! و كي لا يُظنّ بأنّني أدعو إلى الفقر من خلال [ فقيري إقبال ] أنقل المزيد من تجلِّياته في معنى الفقير الحقّ ، فها هو يقول ” فقرُ المؤمن ليس عزلةً عن العالم ، بل هو نضالٌ في البرِّ و البحر ” و يقول ” إن صَانَ الفقير ذاته فمُلْكُ العالم لهُ ” لكونه الأقدر على الترك و الاستغناء ، و يُجلِّي أكثر و يقول ” قد يشكو الفقير جَورَ الزمان ، و مع ذلك فإنَّه قادرٌ على فعل المعجِز ، و أن يجعل الصخور كالذَّرَّات ” و لذلك نجد الفيلسوف إقبال يُحرِّر تعريفاً دقيقاً لمعنى الفقر فيقول ” الفقرُ عندنا هو التحرُّر من الطَّمع ، هو القدرةُ على التَّحرُّر من اهواء النَّفس ، لذلك الفقرُ تتجلَّى منه الذات ، فهو ينقلها من الفناء إلى البقاء ” .
هذا هو الفقرُ في المعنى الإقبالي ، و كثافة هذا المعنى الرفيع جعلت إقبال يصف الفقر الحقّ بكلمة [ الحُرّ ] فيقول ” الفقرُ الحُرّ إذا ناجى القَدَر أَرهَبَ الشَّمسَ و احتلَّ القمر ، أمّا الفقرُ المُذِلّ فإنّه يزول و يُبعِدُ المسلم عن جلاله ” !! و لاعجب أن تجد هذا الرجل يتوجَّع فيقول ” الفقر الذي يوقظ القلوب لم يَعُد يُوجد في هذه الأمّة ” و يُعلنها مدوِّية و يقول ” يا قوم .. الفقير نادر الوجود ! فإذا وُجِدَ فلينتهز الجميع الفرصة للتعلّم منه ” و لمزيدٍ من التأكيد على اتساع معنى الفقر و الفقير في ذهنيته يقول ” الفقر المادي أحد نتائج اضمحلال المسلمين ” !!.
الآن أعود فأقول : فعلاً إنَّ الدَّهشة إذا أتتك من عالم المعاني كانت أذكى و أكثر تأثيراً .. و اسمحوا لي أن أختم الحديث عن دلالات معنى الفقر و الفقير بعبارة قالها الدكتور مصطفى السباعي في كتابه [ هكذا علمتني الحياة ] ص 42 : ” الفقير ميزان الله في الأرض ، يوزن به صلاح المجتمع و فساده ” .
د.علي محمد ابو الحسن