ولد لخمس وعشرين من ذي الحجة من عام ألف وثلاثمائة وأربع وأربعين للهجرة بقرية ريفية تسمى “تمنيت” تبعد عن مدينة شنقيط على جهة الجنوب عنه بحوالي ثمانين ميلا وهي قرية يتوطنها جده لأمه محمد الكبير بن العباس العلوي المشهور من رجالات العلم وكبراء الطريقة التجانية المقدمين فيها والمعترف لهم بالكرامات والخوارق الباهرة والفتح الأكبر وقد سمى محمد الكبير هذا ولد ابنته تبركا وتفاؤلا على جده لأبيه محمد عبد الله المعروف بالسيد بن اكتوشن وهو أيضا من كبراء الطريقة المشهورين بالعلم والورع والذي استشهد في جهاد النصارى عام 1325هـ وكان من كبراء التجانية المفتوح عليهم الذين قادوا إليها وفيها كثيرا وفتح على أيديهم فيها الفتح الأكبر.
ويحكي علينا محمد عبد الله بن السيد سبب انخراطه في سلك الشيخ إبراهيم قائلا:منذ عقلت القربة وأنا تعلقي الأول معرفة الله،ولا غنى لي عنها ولا صبر، ولم أتبين إلى ما تتوق إليه نفسي من الخير وسيلة إلا التمني والتعلق فقط، فلما قاربت سن البلوغ اعتنقت التجانية طريقة، طريقة آبائي وأجدادي على يد أحد كبرائها، ونيتي محددة، ثم بعد لأي جددت على آخر، ثم على آخر تطلبا لمرادي، ثم بعد الرابع من أشياخي ـ إذ لم أظفر بمرادي ـ أزمعت سياحة العمر أو قريبا من ذلك، فخرجت مشرقا دون زاد ولا رفيق، لا أدري إلى أين وإلى متى، وكان من فضل الله أني بعد زهاء سنة في تلك الحال، ألقى المتفضل الكريم الوهاب في قلبي أن أتيمم فضيلة الشيخ إبراهيم رضي الله عنه لما بلغني عنه من كثرة الفتح على أصحابه ـ والحال إني في بلاد الحوض الموريتاني شبه الهائم ـ فبادرت مغربا بعد التشريق، متجاهلا تعصب والدي وأعمامي وخالي لمشيخة الآباء والأجداد وحرصهم على تلك السمعة، لأن من انتبه إلى أن الحجاب عن ذات الله بلاء في الدنيا عظيم، وعذاب أليم، وخسارة في الآخرة لا تعوض، لا يحق له أن ينظر إلا فيما يفك عنه ذلك الوثاق، وينقذه من معاناة ذلك الخناق.
وكان من أمري أنني عند ما دخلت على فضيلته، تهيأ لتعريفه بي بعض الحاضرين، لكن قبل أن يتكلم قاطه الشيخ رضي الله عنه قائلا: “دعه أعرفه من قبل، حاجة مقضية”
ففاجأني الجواب بذكره لمعرفتي من قبل، وبالتبشير بقضاء الحاجة، وأنا لم أتكلم حتى أذكر حاجتي، والشيخ لم يرني قط ولم أره، فبهت صامتا، ثم أجاب خاطري مرة أخرى بعد دقائق عما يتردد في سري: هل هذا سيقع أم لا؟، متبسما قائلا: “نعم حاجة مقضية أن شاء الله”، ثم كرر أبياتا من شعره هو مطلعها:
طويت وسهلت الطريق إلى الحق + لكل مريد الوصل للحق بالحق
وهي أبيات يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم لما أعطاني الطريقة تلقينا كما طلبت منه ووجهني كغيري للتربية التي لا كد فيها ولا رياضة ولا عري ولا لماق إلا التفكر في الله ومراقبته وذكره والصلاة على نبيه، ومكثت في هذه الحال حوالي شهرين ونصف، خاطبني فجأة قائلا: “ضمنتك أينما كنت، وضمنت لك المعرفة التامة”، قلت له: عاجلا، قال لي: “عاجلا، إن خف المطر فارجع تجد مرادك”.
ثم لما رجعت في الموعد، أنشدته قصيدة أمدحه بها، وقلت فيها:
أطلت وقوفي قبل ذا وتشوقي + فهل لي بتعجيل المراد بشير
فقال لي: “أبشر بتعجيل المراد”، وكان كما قال والحمد لله رب العالمين.
ثم كان من حالي معه بعد بلوغ المراد عنده، والحمد للكريم الوهاب، أني ربما أطيل المقام عنده بغير أمر منه، ولكن بإذن وتشجيع والحمد لله، وربما استأذنته لزيارة الأهل والوطن فساعدني كما طلبت، فهو لا يريدني إلا لنفسي، كما عرفت من معاملته معي.
ومن فضل الله وكرمه أنه هيأني لخدمة الطريقة بالتقديم المقيد فيها عام ثلاثة وسبعين وثلاثمائة وألف للهجرة، ثم أطلق لي بعد ذلك إطلاقا تاما إجمالا وتفصيلا بتاريخ واحد وعشرين من ذي الحجة سنة ألف وثلاثمائة وست وثمانين هجرية والحمد لله، والتحق بي في الانخراط في سلكه والوصول على يده والدي وأخوالي وأعمامي تفضلا من الله.
رجل متميز:
من الرجال القليلين الذين رتعوا في رياض الشيخ رضي الله عنه، ونهلوا وعلوا بحبه وتذوقوه وصوروه في الصفحتين الأمامية والخلفية صورة حقيقية، فقد فتح له الشيخ رضي الله عنه الباب الداخلي فرأى ما لم يره المتزاحمون على الباب الخارجي، فأيقظ ربة الشعر وما كانت نائمة، وحل وكاء القريحة البكر التي كانت موكوءة عن النظر في المتغيرات وبرى القلم الذي كتب لفظة “الشيخ” وقال قطني مهلا رويدا قد ملأت بطني، وفتح دواة الصدق على العراء ليكتب بها “الشيخ ” ونفدت، وفتح عيني بصره فرأتا “الشيخ” وسرعان ما نمتا بالخير لعين بصيرته التي تتكلم على حب لا يعرف الأين ولا الكيف ولا الحصر ولا العد.
أطلق له الشيخ الإذن في الأذكار والأسرار فأسر ما ذكر وذكر ما أسر، وأطلق له الإذن في أن يصف ما رأى ويعبر عما شاهد، وكان الشعر رائده ونعم الرائد، وكانت الأشطار والأعجاز تتفلت من قبضته وتتسابق إلى مرماه ليقول شيئا عن الشيخ وليكن أشياء وأشياء.
كان الشيخ يدعوه لسماع نبراته العروضية، وكان الشيخ رضي الله عنه يحب الجامع بين حسن الأداء وثراء المضمون وإذا فتح السيد محمد عبد الله بن السيد عن شريط حديثه المنظوم مع الشيخ تداعت جدران الحاضرين واندكت جبال الموسويين وتلاشت الأنانيات وتواجدت وذابت الذوات وتدفقت من مجاريها العبرات.
كانت سهام نغماته الداودية ونفاذ مضامين أقواله الحقية تتسابق إلى الآذان السامعة والحبات الراتعة في جمال المشهد.
كان يعجب الشيخ رضي الله عنه بذلك الصدق الذي يصور بدقة وأمانة حالة المريد الحق والمراد الحق عند ما يقول:
إن تفكرت في تحققت عجزي + وهواني وذلتي وشقائي
وإذا ما ذكرت أني رقيق ++ لك لم أخش بعد غير الرياء
كان متواضعا مع أن النهار يهابه والشمس تخشاه، كان يعيش مع الشيخ في عالم لا نهار فيه كان جل أسفاره إلى الشيخ ومن الشيخ، كان الشيخ رضي الله عنه يشده إليه، وفي ذلك من الغنى الذاتي ما لا مزيد عليه.
صلى صلاة الجنازة لأول مرة على حياته الأولية مأدبته وأشعاره العربية الحية عند ما استدعته القريحة إلى بواعث لم يسد لها باب ولم يكشف عنها حجاب فبقي مع شعر يرى فيه الشيخ ويرى الشيخ فيه.
لم يكن محمد عبد الله بن السيد أطال الله بقاءه من من فتح عينا وغمض أخرى ولا من من مد يمينا وأغل يسرى، بل كان انفتاحه على الشيخ رضي الله عنه وانغلاقه عن غيره ممتدا كالجسر وكالسراط وكالأبد إلى خلفائه ومقدميه وسائر أحبابه فقد أحب كل عين رأت محاسن سعدى وكل قلب انطوى على جمر الغضا، فكان يسمر مع الأكابر على شمول محبة الشيخ وما قيل فيه، وما قال هو رضي الله عنه في حبيبه صلى الله عليه وسلم، حيث كان رضي الله عنه الأول كذبا والثاني حقا، يقول لسيدي محمد عبد الله: أسمعني بعض كذبك.
أقول إن محبة سيدي محمد عبد الله بن السيد للشيخ رضي الله عنه لم تكن مقيدة فقد أحب أحبابه من حبه، وجمع حبهم مع حبه في لبه، من ذلك تعبيره عن بعض ما يكنه للشيخ عبد الله رضي الله عنه من الحب والإجلال في أبياته التالية وقد مر بألاق ذات مرة ولم تسمح له السيارة بملاقاة حبيبه فكتب إليه:
صحاب أبي إسحاق مني عليكم+++++++سلام وإن جازت بي السفن عنكم
ووصل أبي إسحاق وهو أليتي +++++ لشوقي بكم عمري وفكري فيكم
لقد ملأ الحيزوم خالص ودكم +++++ ولا نط قي لي إلا السلام عليكم
كان رضي الله عنه وأطال بقاءه غيورا على الحق مدافعا عن وسائله ووسائط ومناهج،
منبها منذرا قبل الاندفاع فيما لا تحمد عقباه من ذلك قوله:
أيها الشيخ من يداه غمام +++ واقتفاه عن الحرام لجام
يا أبى المجد والصفا والمعالي ++++ علم وصفه له أعلام
قل لتبع يغتابنا تيد أنا +++ حرم لحمنا عليه حرام
فليعض اللسان بالكف عنا ++++إن ظلم القطاط للأسد ذام
من إنتاجه الأدبي والروحي:
لم يكن محمد عبد الله بن السيد كثير التآليف ولا غزير التصانيف لأنه رهن الواردات والمناسبات والحال، فإذا أوحت إليه الحمية لله ولدينه أن يتكلم تكلم، وإذا أشارت إليه سبابة الحال أن يسكت سكت، ولم يكن الظالمون أخوف منه إذا تكلم منه إذا صمت
شيخ إذا ربى يكون كأحمد +++ وإذا تكلم كان مثل الأصمعي
ولقد استوحى هذه المصالحة والمصارعة من شيخه الشيخ إبراهيم رضي الله عنه الذي يقول:
إنا نلاين تارة وإذا نصـــــــــو+++ل تهتكت أستار كل جبان
لا لا نلاين من يسب طريقنا++++ فلديه يخبث مقولي ولساني
نظم صاحب الترجمة ديوانين في مدح الشيخ رضي الله عنه، أحدهما ديوان الكامل، والثاني السيل الدفاق، وقد طبع هذا الأخير ووزع.
وله ديوان في مدح سيد الوجود صلى الله عليه وسلم، ومجموعة من التوسلات، وله نظم في سلاسل الشيخ رضي الله عنه، وله تآليف من بينها:
ـ من أخبار الشيخ إبراهيم
ـ التلخيص التجاني والتنبيه
وله رسائل يرد فيها على من ظلمه بسب أشياخه والمس من عقيدته والنيل من قداسة إمامه وجده صلى الله عليه وسلم، وعند اهتصام الشيخ يستقبح الصبر:
ـ رسالة التبين، وجهها إلى أحد أئمة انواطشوط
ـ رسالة إطلاع التجانيين على سبب ما يلحقهم من الأينيين
ـ رسالة موجهة إلى أحد المعرضين بالتجانين على بساط الأثير
ـ رسالة التنبيه الممتاز يرد فيها على بعض الوهابيين حيث هاجم ـ هو الآخرـ الطريقة التجانية.
ـ رسالة في على الأسئلة الستة الواردة من مسلمي ابريطانيا
ـ رسالة إقناع المحقين في تعظيم المولد والتوسل بإمام المتقين
إلى غير ذلك من أوجه الإفادة وشحذ أسنة وألسنة الكيل الوافي طبقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “من تعز عليكم بعزاء الجاهلية … الحديث”.
تقديم الشيخ رضي الله عنه له:
بمجموع إجازات الشيخ رضي الله عنه التي أثبتها ورضي بها وزكاها، أجاز السيد محمد عبد الله بن السيد ومن خط الشيخ رضي الله عنه كتبت 21 ذي الحجة 1386هـ
الحمد لله
فبمجموع هذه السلاسل والإجازات وصلنا حبل ولدنا البار الأستاذ السيد محمد عبد الله بن السيد بحبل الشيخ التجاني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجزته إجازة مطلقة عامة، وأرجو الله أن ينفع به الأمة.
والسلام إبراهيم نياس الكولخي
وأذنت له وأجزته في جميع ما صح عن الشيخ رضي الله عنه من أوراده اللازمة وغيرها يجيز بها من شاء بما شاء مع مراعاة الشروط في الإذن والإجازة زائدا على شروط التلقين، وأطلقت له الإذن في الأسرار والأذكار الخصوصية كلها زفي الأوراد التي لا يتناولها الإذن العام المطلق وهي:حزب البحر وورد الفاتحة وياقوتة الحقائق والصلاة الغيبية، يقرأ ما شاء بالإذن عني ويلقن ويجيز بالتقديم على ما ظهر له من إطلاق وتقييد.
والله ينفعنا وينفعه وينفع من أخذ عنه ومن أخذ عمن أخذ عنه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إبراهيم بن الحاج عبد الله نياس الكولخي لطف الله به آمين.
{من كتاب رجال وأدوار حول الشيخ لمحمد بن الشيخ عبد الله}