توجيهات مستمدة من منهج شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم انياس الكولخي رضي الله عنه

0
1137

بقلم: الفقير إلى فضل مولاه:
محمد عبد الله ولد السيد ولد اكتوشن
العلوي التجاني الإبراهيمي

لسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم.
إخوتي في الشيخ الذين أحسنوا الظن بي؛ فرضوا بوساطتي في اعتناقهم الطريقة، محبة في شيخنا، وحسن نية في اتباعه،
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وفقنا الله جميعا وهدانا الصراط المستقيم الذي هو باب الفوز وسبيل النجاة. وما أرشد سلوكه للعبد وأحلاه في الروح، وأصعبه على النفس الأمارة بالسوء، وأسهله إن تفضل المولى بالتوفيق، وتحكم العقل وفكر العبد فيما بعد اليوم، وصدّق المرسلين وعمل بمقتضى قوله تعالى: “إن ربك لبالمرصاد”، وانتبه أنه لا ينال شيئا من ربه بمعصيته، أما بعد،
فاسمحوا لي، فإن من رضي بالوساطة بين مريد وممده حقيقة أوجب على نفسه دوام النصيحة والتوجيه في الموضوع. ومن أهملهما استحياء أو كسلا، أهمل واجبه وفائدته على المريد المنحصرين فيهما؛ إذ المقدم ليس في طاقته سواهما. أما الإمداد الذي هو الأساسي للمريد، فليس للمقدم إليه أي سبيل، كما في تصاريح شيخنا رضي الله عنه. وهو واضح حيث أن مقيّد المقام لم تصل
مرتبته حقيقة إلى المركز الإمدادي المطلق. والإطلاق في المقامات خاص بالمظاهر المؤسس عليهم، وبهم ما كان وما سيكون. رزقنا الوهاب المنان دوام الاتصال بهم، وصحيح الفهم عنهم، وكمال الصدق فيهم.
والنفس، لامتزاجها بكليات الإنسان وتدخلها في كل حال منه لاسيما قلبه الذي عليه مداره، ربما سولت له غيرَ ما هو الواقع لعدم تثبتها ولاندفاعها الأعمى. وربما حاولت أيضا أن تمزج ذوقه برغباتها شيئا ما. والحضرة لا تقبل التلويث لقوة سلطان تقدسها. وعندما يقع أي تدخل نفساني، تنحرف عجلة السير عن سواء الطريق من حيث لا يعلم لعدم الكيف هنالك، وخطورة المشتبهات، وتعطل العقل البشري وانعدامه في ذلك المحيط؛ فيقع للمجذوب تخلط ربما ينشأ عنه توقف، إلا بعناية من الله، وتدارك سريع قبل خمود الوقود.
وعليه، أيها الأحباب، اجعلوا القرآن غير المتشابه مستندكم الإجمالي، واقصروا جميع تعلقاتكم الإمدادية على ممدكم حقيقة الذي يقول:
وإن دهش الأقطاب يوما بمشهد

رأوني وانقادوا إليّ وأخلصوا

ويقول:
والامة قصدي فيهم أن أسوقهم

إلى حضرة البرّ الرحيم إلهنا

ولا يفهم من هذا إلغاء المقدم، ولا التهاون به. بل الأكمل والأجدى معاملتك إياه بما ينبغي منك للممد حقيقة، لتقوية الربط وحرمة الوساطة وتحتم شدة الأدب في الموضوع. ولكن لكليهما نظر إليه خاص يديره الصادق الكيس بأسلوب دقيق حتى لا تحجبه الواسطة عن ممده، ولا تختطفه عظمة الممد عن الأدب معه في جانب واسطته التي وصلته به. فأصبح الأدب معها أدبا معه، واحترامها احتراما له. وفي هذا المعنى كلام لشيخنا موضح جدا في السر الأكبر. انتهى
واقتصروا في معارفكم على ما يرد على القلب من الروح من السرّ عن الرب بلا استزادة من العقل البشري المستمد من اللحم والدم؛ لكي لا تهلكوا وتضلوا، وتخالفوا شرعكم، ويتبرأ منكم شيخكم؛ فتطردوا عن حضرة السعادة. واحرموا ألسنتكم من علومكم الباطنة، فإنها ليست لها، إنما هي للروح وللقلب السليم. فإن تركت لأهلها لذّت واستقامت ونمت. وإن ظلمت بإشراك اللسان خمد نورها، وطار سرها، ولم يبق منها إلا مجرد صورة لفظ رئائي. “وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون”. اللهم إذا كان بين المريد وشيخه فقط. وكان كلاهما منفردا بالآخر لإصلاح حال المريد.
ومن الشرط أيضا ألا يصارح بلفظ صريح، وإنما يعامله بمجرد الإشارة الخفية، ولا يصارحه بلفظ مجرد، ولكن يوجه فكرته إلى سواء السبيل بإشارات خفية دقيقة تمنعه من التوقف والتقهقر والاعوجاج، ويترك بينه وبين التفكر ليتلقى الحق من حضرة الحق بواسطة سره عن ربه. فياتي العلم الباطن صافيا مع طريقه الصحيحة المعهودة، لا باللسان ولا الأذن. فتلك طريق العلوم فيما تدركه الأبصار، وتقربه العبارة. وجل الله وتعالى عن ذلك علوّا كبيرا. وفي هذا المعنى أشير- وإن كانت إشارة ناقصة ومن مشير ناقص- في قصيدتي القديمة: “التعريف بالطريقة التجانية” التي مطلعها:
نهج التجانية المثلى هو الرشد

وهو الصراط الذي ما مسه أود

ذكر الإله والاستغفار، ذان هما

نفس الطريقة، هل يعروهما فند

ثم الصلاة التي أغرى النبي بها
نصا، ونص عليها الواحد الأحد

هاذي لعمرك أركان الطريقة لا

زيدٌ، ولا نقصَ، وهي الدين والرشد

مزن من السنة الغراء ممطرة
أرض القلوب سماها الصدق والسند

وإن تجنى عليها مغرض حسدا
فالزور منه، ومنها النور والمدد

إلى أن يقول:
والعلم علمان: علم ظاهر وضعت

له الصحائف مسموع ومطرد

وباطن جل عن سمع وعن بصر
بالروح والقلب مختص ومنفرد

محبة الاوليا أقلامه، وبه

قدما لربهم في الغيب قد سجدوا

شاموه في عالم الأرواح فائتلفوا
به، وشموه في الأشباح فاتحدوا

وشاهدوا القلب مرماه ومدركه
بعد المراقي التي من وترها صعدوا

فبايعوا الحق رغبى فيه يغمرهم

صفو الهوى وصفا العلم الذي وجدوا

علم عزيز لدنيٌّ إذا احتضنت
أحضانه السر زال الهم والنكد

ونادت الحال: يا روح انعمي وربت
مسارح القلب واستغشى الضيا الأبد

وباشر القلب سر كان أودعه
منه مخابئ سرٍّ، كلها تلد

علم مشاهده تنسي الشهاد وعن
برد الفؤاد به قد يعجز البرد

لا يعلم الحصر والتقليد وارده
ولم تسع مده الآماد والمدد

وإن نوى الجهر والتعبير عابره
ضاق الفؤاد حياً واندقت الكبد

في الخلق ذاك، وهذا في الإله، وذا
صحن، وذاك لذا سقف ومستند

وذا وذاك هدى الهادي ومن ظفرت
نفس له بهما ضاءت له الجدد

وفي قصيدة أخرى أفصّل في الموضوع، فأقول:
وللشرع علم لا يزال معظما

ولكن لباب اللب: علم الحقائق

وفي الخلق علم الشرع ينصب مطلقا
والآخر في الباقي القديم المواثق

وللمصطفى العلمان، خص بواحد
والآخر قد أبدى لكل الخلائق

وبلغه باللفظ إذ هو ظاهر
جميعا جهارا لم يدع أو يمارق

وبلغ بالإمداد الآخر باطنا
بلا أحرف؛ فافهم وفكر وصادق

تقدس روح العلم في الله أن يرى
تعاطاه آثار الدوى في المهارق

ومن يدّع العرفان وهو مشاهد
سوى الله في دعواه ليس بصادق

فمن رزقه الله من هذين العلمين، ووفقه لإعطاء كل منهما حقه، فقد فاز فوزا عظيما. وأصبح بشرا سويا، تام المعنى، ينظر بعينين، ويسمع بأذنين، ويمشي على رجلين؛ يعبد بظاهره ويشاهد بباطنه شريطة أن يدير حياته بقلب رباني سليم، كامل اليقظة والإدراك والاعتدال. لا يقبل أن يطغى ظاهره على باطنه،ولا باطنه يطغى على ظاهره. بالقلب الرباني يشاهد ويخشع، وبالجوارح يسجد لربه ويركع.
أما إذا اكتفى العبد بأحدهما، فهو مشلول. والمشلول دائما في خطر من السقوط. ولا تستقيم المشاهد الباطنية أبدا إلا بالتمسك التام بظاهر الشرع. وظاهر الشرع أيضا وحده معرض صاحبه لنكبات إنكار الباطن، وهو أعظم خطرا. ومعرض أيضا للتجاسر على انتهاك قوله تعالى: “ولا تقف ما ليس لك به علم”، وللتعرض في عطاء الله غير المحظور، ولإنكار ما لا يجوز إنكاره مما لم تثبت حرمته؛ وتحريم الحلال كتحليل الحرام.
وسبب هذا جميعا عليه أن نفسه لم تزل أمارة فقط؛ إذ هي لم تذق من طهور الحضرة ما تطمئن به، وتتوقى المهالك؛ فتقف عند حدودها في كل شيء. وبالجملة، فالسعيد من جمعهما وترك لكليهما واديه الخاص به؛ ترك لظاهره سلوكه، وترك لباطنه شهوده. ولكن الخطر، كل الخطر، من نفسك التي بين جنبيك؛ إذ هي لا تهدأ عن تهدئتك عما يقربك إلى ربك، وتعريضك لما يهلكك. ومن أخطر ذلك، وكله خطر: تدخلها في الأذواق الباطنية التي هي أدق وأخطر ما يقع فيه التزوير والانحراف. إذ هي في ذات الله وصفاته. ولا تسمح الحضرة فيها بخطإ. وحسنات الأبرار سيئات المقربين. والتزوير في الله-على الأقل- كالتزوير عليه. قال تعالى: “ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين”.
ولا بد للنفس من قضاء مآربها، وإثبات مخيلاتها، والتبجح بما لم تملك. وعلى الأقل الإفشاء والتصريح. والوارد الإلهي ما دام مقصورا على الغيب، مترددا بين السرّ والروح والقلب لا يزال يتضح وينمو، ويفتح آفاقا لواردات أخرى من جنسه ربما تكون أهم منه. وبمجرد أن تشرك فيه اللسان، فكأنك صرفت عصارته عن قلبك، فيخرج عن دائرة البطون والسرّ. ويطير سره، ويكسف نوره، ويعقم نسله. وإن كان ذلك الجهر لمحجوب، عصيت ربك، وأهلكت نفسك، وعرضت صاحبك للهلاك، ولحرمان هذا المعنى أبدا.
وإن كان لعارف أسأت الأدب مع ربك على الأقل، وراءيت، وكشفت بتلاعبك نور ذوقك. فالأذواق الإلهية سرّ بين العبد وربه، لا يفشيها لغير أهلها إلا من أراد اللهُ ارتجاعها منه. ولكن ربما ترك له صورة اللفظ خاوية يستدرجه بها. أما من تكلم بعلوم أهل الباطن وهو ليس منهم، أو من لقنها لمحجوب ليعلمها فقد عرض نفسه ومن يسمع منه لما لا يعلمه من البلايا إلا ربه. وقد حُرماه إلى الأبد. وكل هذه البلايا تقع لصاحبها مكتومة عنه لئلا يتوب لعظم ذنبه.
ومن شدة ما شددوا في الدعاوي قولهم: ” من تنفس من غير حال، سقط من عين ذي الجلال”. وقد أكثر شيخنا من الرسائل في التحذير من هذا النوع، ولكن الله غالب على أمره، يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ثم من ناحية أخرى، لتعلموا، أيها الإخوة في الله، وفق الله الجميع، وأرانا الحق حقا، أن الجذب وما في معناه، وما ينبني عليه، لا يُحل حراما ولا يُحرم حلالا. وإذا كان فاقد العقل، أيا كان نوعه، ساقط التكليف، ففقد عقل المجذوب أو تبدله على العبارة الأصح، بعقل قدسي مجرد لما قبل التنزل والتلبس بمقتضى التكليف، ووقع تبدل المشهد فجأة بالمعنى الثاني في قوله تعالى: “يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار”.
ٍأقول: فهذا التبدل لا ينتهي، ولكن تحكمه لا يستمر إلا قليلا لتحكم عالم التشتيت في الوضع بتقدير أزلي حكيم، وسرعة تدخل عالم القيد لقوة وسائله. فيرجع المجذوب بكثافته رغم أنف مشهده إلى متعوداته البشرية بسرعة، ويصبح هو إن كان معذورا وقت المفاجأة، فقد زال العذر، ولم يبق إلا وزن الحالين بالقسطاس المستقيم، صراط العزيز الحميد، الصراط الذي أوجب ربكم عليكم، رحمة بكم، الدعاء إلى سلوكه في اليوم سبع عشرة مرة في الصلاة. ولو لم يفرضها ما انتبهتم لتأكده، أو لقصرتم لقعود الأنفس بكم. والصراط المستقيم منحصر في أخذكم ما آتاكم الرسول، وانتهائكم عما نهاكم عنه.
ومن سلوك الصراط المستقيم أن تعطي من ظاهرك ما يستحق ظاهر الشرع، ومن باطنك ما يستحق باطن الحق، وألا تفشي أسرار الربوبية. فنشر كلام أهل الحقائق بين المحاجيب، كما قالوا، أشد عند الله حرمة من الحرام. ودعواه كذبا مع حرمته، يحرم صاحبه منه أبدا.
ومما ينشد شيخنا التجاني كثيرا قول القائل:
السر عندي في بيت له غلق

ضاعت مفاتحه، والبيت مقفول

لا يكتم السر إلا كل ذي ثقة
والسر عند لئام الناس مبذول

ويظهر من كلام الشيخ في البيت أن الجهر بكلام أهل الحقائق لآمة. وهو واضح جدا، لأن اللئيم عبارة عمن كافأ الإحسان بالإساءة. ومن خصه الله من بين كثير من أبناء جنسه بأن قربه حتى أطلعه على بعض أسراره الخاصة بذاته المقدسة، فذهب ينشرها لأغراض نفسانية، فقد تنكر على الله، وخانه، وعرض عباده للهلاك، أنكروا أو صدقوا. لأنهم في كلا الحالين قفوا ما ليس لهم به علم. قال صلى الله عليه وسلم: “حدثوا الناس بما يعلمون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله”. ومما يردد الشيخ التجاني كثيرا، قوله: “صدور الأحرار قبور الأسرار”.
وقد كان شيخنا رضي الله عنه كثير التوجيهات والتوضيحات في هذا النوع، والتحذير والترهيب منه. فمنها بعد الحث الشديد وتبيين أن الباطن لا يفيد السامع، يقول: ” والباطن لا يكون ظاهرا. وأنشدوا:
من سارروه، فأبدى السر معتمدا

لم يامنوه على الأسرار ما عاشا

قلت: ولهذا البيت الذي ذكر الشيخ صاحب، وهو:
وأبعدوه، فلا يحظى بقربهم

وأبدلوه مكان الأُنس إيحاشا

وربما كتب الشيخ في الموضوع بعد الحث: “وأي مجذوب يتكلم لا ينال المزيد مني، لأني لا أعينه على معصية الله تعالى، واعتبروا في شأن بعضهم ممن تقدمكم ممن منعته من الكلام بعد أن ربيته، وتمادى على ما منعته لهوىً متبع، وقطعت مددي؛ فلم ينتفع وهلك من سمع منه. فهو أسوأ حالا وأسفل مقاما ظاهرا وباطنا. والسعيد من وعظ بغيره. وحب الظهور يمنع الظهور” اهـ.
ويقول في رسالة أخرى في محل آخر: ” وعليكم بكتم الأسرار قولا وفعلا. ودعوا عنكم التجاهر بكلام أهل الحقائق، واسلكوا الصراط المستقيم. وتلك الشهوات طاغوت تعبدونه بعد دعوى الإيمان”.
ثم انتبهوا، أيها الإخوة، أنه لما كانت المحافظة على الشرع المطهر، واحترام حدوده شرطا أساسيا في التمسك بالطريقة وفي الانتفاع بها، كان الأشق والأصعب تنفيذا في كل ذلك على أعناق المقدمين. ولا ينجيهم إن لم يمتثل المريد إلا طرده والإعلان بمناهضته. فإن لم يرجع وجب الفرار منه إلى الشيخ والتبرؤ منه إلى الله ظاهرا وباطنا.
ومن بين مسؤوليات المقدمين الشاقة اللازمة، الزجر الصارم عن التجاهر بكلام أهل الحقائق، وعن اختلاط الرجال والنساء، وعن ذكر النساء جهرا، كما كان الشيخ رضي الله عنه يبالغ في ذلك، ويبين أن مسؤولية المقدم منحصرة في النصيحة والتوجيه. وكان هو، إن دعت الحال لاجتماعهم مثل داعي وعظ أو تدريس أو نصيحة، تراه يأمر النساء بالجلوس وراءه والرجال أمامه، بحيث يكون بينهم فرق واضح، كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيد؛ إذ كان صلى الله عليه وسلم يخرج إلى المصلى العواتق والأبكار والحيض وذوات الخدور، وهن معتزلات.
فالشيخ دائما يتابع كل ما صح عن الرسول الكريم في الحركات والسكنات، ويفتخر بذلك، ويتلذذ بتطبيقه، ويقوله في شعره ويصرح أن لا خير إلا في اقتفائه صلى الله عليه وسلم في كل شيء. ويقول:
فإن تسألوني عن حبيبي ومذهبي

جوابي رسول الله حين أجيب

ويقول:

إذا سار خير الناس سرت وراءه
وإن حل يوما فالمسير بعيد

وكان رضي الله عنه يؤكد دائما على إسرار النساء بالذكر وعلى اعتزالهن، ولا يهمل شيئا من ذلك، ولا يتساهل فيه. أتذكر من ذلك:
ذات ليلة-والله شهيد على ما نقول- كنت في مجلس بعيد عن دار الشيخ مع رجال مشتغلين في ما نحن فيه مشتغلون. فإذا بصوت الشيخ عاليا يقول: يا محمد عبد الله، يا محمد عبد الله (بياء النداء)، وما سمعته قط أدخل الياء في نداء إلا تلك المرة، لا قبل ولا بعد. فبادرت أعدو عدو الصبي الفزع. والليلة مظلمة. فلما أتيت الباب خاطبني قبل أن أبلغه بقوله: “قل للنساء يذهبن إلى محال النساء”. فنظرت، فلم أر إلا رجلين أعرفهما من أهل الدين والاستقامة، ولم أر امرأة. قلت لهما: أين النساء؟ ومن النساء؟ قالا لي: أتت هنا امرأتان سوداوان، وذكرتا. ولما سمعتا نداء الشيخ فزعتا، ونظن أنهما ذهبتا إلى الدار.
ثانيا: ذات يوم، كان الشيخ في سفر ونزل من (مسْلِينْ) في مرسى مدين. واجتمع عليه كثير من الرجال، وأنا فيهم. وبعد السلام أقبل ماشيا إلى داره، وازدحم الناس وراءه يمشون في تلاصق كالحرجة من شدة الزحمة. وبينا هو يمشي، ويكاد الإنسان ألا يرى موطئا لقدمه، إذ التفت بكله واقفا كأنه مغضب. فوقف الجميع حائرين لمفاجأة وقفة الشيخ ملتفة وراءه. وإذا بعجوز واقفة خجلة خجلا شديدا، اكتشف الجميع أنها وضعت يدها على طرف ثوبه من ورائه من حيث لا يرى في ظنها، تبركا بالثوب. ونظرا لما رأينا في وجه الشيخ من الغضب، كلنا فزع وحده.
ثالثا: ذات يوم، ونحن جماعة نمشي وراء الشيخ إلى المسجد في مدين، إذ سمع نساء يذكرن جهرا. فقال لهن: “اسكتن”. فلم يسكتن. وأظن أنهن لم يسمعن خطابه. فقال لهن مرة أخرى بصوت عال: “اسكتن”، فلم يسكتن. وأظن أيضا أنهن لم يسمعن، والله أعلم. فرفع صوته جدا، وقال لهن: “اسكتن، سكتكن الله، وبكتكن”. ومعلوم أن من عادة الشيخ ألا يخاطب أحدا إلا وهو متبسم لشدة أدبه. لكنه في الشريعة لا يداهن، ولا يداري، ويقول:
ألين لمن يقفو الأمين وإنني
شديد وصعب إذ أقاد إلى الأهوا

رابعا: ذات يوم، أتت جماعة من التلاميذ من موريتانيا آخر الليل واستقبلهم الشيخ وقت الضحى في عرى داره الشرقي للسلام. وحضرتُ، والذي في ذهني أنها برسالة منه إليّ، والله أعلم. فهذا في زمن قديم جدا. وبعد متطلبات السلام، تكلم منهم رجل مسن محترم عند الشيخ وعند التلاميذ، فذكر فيضة وقعت، وذكر بعض المضايقات تلقوها من غيرهم. فرد عليه الشيخ بقوله: “لا باس عليكم”. فقال الرجل: الفيضة المذكورة فيها نساء ذكرهن حسن جدا. فقال الشيخ له: “يذكرن لأنفسهن”. فقال الرجل: “إذن، لا ينتفع بهن أحد”. فقال له الشيخ: “النساء ليس عليهن نفع أحد”. فقال الرجل: “أما أنا، فإني لا أنتفع إلا بذكر النساء”. فقطع الشيخ المحاورة بقوله لرجل آخر: “قل له ما قلتُ أنا”. فأنشأ الرجل يقرأ قصيدة الشيخ التي مطلعها:
أمن ذكر خير الخلق وهو منير

سما لك شوق لات حين تسير

خامسا: كان ذات يوم جالسا في العريش ضحوة، وكنت وحدي معه. فجلست امرأة سوداء في العريش هي أيضا، لا أدري ما حاجتها. فأتت سيارة كبيرة (من النوع القديم المسمى 46)، أظن أنها تحمل “كَرْتَ”. وتوقفت في العريش غير طويل. ثم ذهبت. فالتفت الشيخ، فإذا بالمرأة ذهبت فيها مع السائق في المقدم. والمقدم كما هو معهود واسع جدا. والسيارة تقصد كولخ من مدين. فبادر الشيخ واقفا يشير إلى السيارة، ولا أدري بالضبط، كيف علم السائق، والحال إنه جاوز العريش. وعلى كل احتمال، رجع القهقرى في السيارة حتى وقف إزاء الشيخ يبحث عن حاجته فيه. فما زاد الشيخ على أن أمر المرأة أن تركب في حوض السيارة، لا معه هو في المقدم. وهذا على الرغم من وسع المقدم. وعلى الرغم من أن هذا في وسط القرية، وعلى الرغم من كون هذا وقت الضحى، وعلى الرغم من أشياء أخرى تؤذن بعدم الريبة بينهما بدون تفصيل.
هكذا، يا من يقتدون بالشيخ، عمل الشيخ مباشرة في التشديد في مخالطة الرجال والنساء، وفي رفع النساء بأصواتهن،ولو بالذكر.
أما فتاويه التي خلد لنا لنحفظها ونتمسك بها، فمما بلغني منها، قوله رضي الله عنه:
أحضض أصحابي دواما على الذكر
وفي مذهبي لا تذكر الخود بالجهر

ففي الجهر أسرار ، وفي السر مثلها
ويعلم مولانا الخفي من الذكر

ومنها جواب يُعلم منه نفس السؤال، وهو: “الحمد لله، الحكم الشرعي دائما على ما كان؛ لا يتغير ولا يتبدل. والمجالس مشتركة بلا خلوة، والمواكلة كذلك. والمرأة لا تسافر دون مرافقة محرم، ولا ترفع صوتها بالذكر، وتسمع من تناجي فقط. والله يقول الحق ويهدي السبيل. والسلام إبراهيم 11 رجب عام 1393 في مدين”. اهــــــ.
ومنها قوله في رحلته السياحية:
يا أيها البنات زاحمن إلى
نيل العلى، أما بالابدان فلا

ثم في محل منها آخر، يصرح ويرهب من أن يخلو الرجال بالأجنبيات لغرر ذلك، وحتى على الأكابر، فيقول:
أخوف ما يخاف كل عالم

أمر النسا، هن هلاك العالم

تمرد البعض، وبعض أولا
وبعضهم غلب، بعض جهلا

والعبد ذا بلي بشهرة خشي
من مكر ربه، لذاك يختشي

خدمني الأحرار والعبيد
خدمني كذا الملوك الصيد

وخدم النساء والرجال
وخدم الأشياخ والأطفال

وما أذنت للنسا في الخلوة
ساعة زورهن وقت الجلوة

سوى الحلائل أو المحارم
أو ما ملكت بعد ذي من خادم

حكاية أجنبية أتمثل بها:
يروى أن ملكا من الملوك قديما صعد على المنصة ليعظ قومه يوم عيد، فأرتج عليه. فسكت مليا، ثم قال: أيها الملأ، أرجي علي، ولكن، لا أجمع لكم بين العي والبخل. فاذهبوا إلى السوق، وكل منكم يشتري أضحية على حسابي، وسأقضيها عنه. اهــــــ.
وأنا أيضا، هذا العبد الضعيف المقصر، لا أجمع لكم بين العجز تماما عن الإمداد، وبين عدم تبليغكم عن الشيخ. (ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيي عن بينة). وليتضح لكل من ينسب إلى الشيخ، هل هو من المنضمين إليه حقيقة بالأقوال والأفعال، المتصلين به؟ أم هو من الذين تبرأ منهم. (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل).
جعلنا الله جميعا من المتصلين به، المخلصين له، المخلصين.
ثم إني أكتب لكم بعض وصاياه بحروفها. وما أبرئ نفسي، بل اعترف بأني أحوج من يوصى وينبه.
ولكن البلاد إذا اقشعـــــرت وصوّح نبتها رعي الهشيـــــم

وأقتصر لكم على براوته التي أوجب على كل مريد رآها أن ينسخها ويحفظها ويراجعها كل يوم. والتي تبرأ فيها ممن يدعي الانتساب إليه ويخالف الشرع. وأشهد الله على ذلك ثم أشهدنا جميعا عليه بعد التصريح به لكيلا تبقى لنا حجة للانتساب إليه إلا باحترام الشرع والوقوف عند حدوده والاستقامة في سلوك الباطن. وهدد المقدمين برفع الإذن عمن تقتحم بحضرته المحرمات ولم يقم بما أوجب الله عليه. وصرح فيها أيضا أن كثيرا من المدعين صدّ الناس عن سبيل الله بعدم الاستقامة. وأن من انتسب إلى الله وصار يصد الناس عن سبيله، فقد بارز الله بالمحاربة وصار في حيّز أهل الإنكار الأشقياء لكونه سببا لذلك، وأنه لا يطمع أحد أن ينضم إليه إلا من سلك طريقه في الأقوال والأفعال بامتثال الأوامر واجتناب النواهي في الظاهر وفي الباطن، والتعطش والتشوق إلى مرضاة الله ورسوله .
وفي بداية هذه البراوة افتتح، للتنبيه، رسالته أولا بأسماء الله الجلالية (المنتقم والعزيز والجبار) ليبين جديته في الأمر وتخويفه من معصية مولاه وتحذيره من كل ما لا يرضي ربه. وصرح أن اثنين ليسا منه ولا من الطريق في شيء: مجذوب لم يسلك وسالك لم يجذب، إن بقيا على حالهما ووقفا على سيرهما .
قلت: والمعني في هذه الجملة خاصة واضح لوضوح السبب، وهي إرشاد وحث ملح، وتنبيه على الاستنتاج لان الطريقة التجانية أسسها إمام المربين وقائد السالكين، سيد الوجود صلى الله عليه وسلم لخاتم الأولياء وممد كافتهم سابقا و لاحقا. ولم يزل ولن يزال رسول الله صلى الله عليه و سلم هو المربي فيها، والقائد الأعلى، والمراقب الوفي. ونظمها حسب تدرجات العبد تخليا وتوسيطا وتحليا. ابتدأ بالاستغفار لينظف من جميع الرعونات الشائنة المانعة عن دخول الحضرة المقدسة، ثم تجاوز بها إلى أعظم توسل وأوجه وسيلة. ثم انتهى بها إلى المطلوب من العبد أصلا وهو التوحيد الذي هو غاية الغاية. وخصها بالوقتين المنصوص بالأمر بالتسبيح فيهما البكرة والأصيل. ولكن، اشترط فيها صلى الله عليه وسلم مع الإذن التام صدق النية وتحديدها، وحضور القلب مع الله، والاستقامة مع ما شرع الله ورسوله.
ولا يتأتى أبدا أن يقوم العبد بهذا إلا وصل بسرعة. وكل من لم يصل فليراجع نفسه وعمله وقلبه. فلابد إذاً يطلع على أنه خان شيخه إما بعدم حضور القلب وإما بعدم الاستقامة. وإذاً هو لم يسلك ليجذب. وكذلك المجذوب إن لم يسلك، فالعذر أقصر مدة. وإن زال ولم يرجع فهو كما قال الشيخ: “مكر وجزم روح”. وعلى ما ذكر كيف ينضم أحد هذين لكمل الكمل، حاشى ومعاذ الله. فأمر الطريقة التجانية جد لا هزل.
ثم لننتبه، أيها السادة المقدمون، لقوله رضي الله عنه في البراوة كما ستسمعون: “ويوشك أن أرفع الإذن عن كل مقدم تقتحم بحضرته المحرمات، ولم يقم بما أوجب الله عليه”. ولنعلم أن لفظ يوشك محتمل الوقوع أبدا. ولما قيد والحمد لله بالشرط ينبغي أن نتحفظ غاية من الحور بعد الكور، ومن السلب بعد العطاء، نعوذ بالله منهما. وننتبه أن الكمل يتكلمون بلسان الحق، لاسيما كمل الكمل. والحق نائب عنهم في حياتهم وبعدها. فلنتحفظ من الوقوع في تلك المهالك المحذر من أسبابها. اللهم إنا نسألك بجاه أحب الخلق إليك وأكرمهم عليك أن تحوطنا بالأمن دائما، وتملأ قلوبنا بخالص المحبة فيك وأكمل الإيمان. ثم لتنتبهوا، أيها الإخوة، أني ما نصحتكم بسبب انتقاد ولا ملاحظة سوء والحمد لله، ولكن لاحتياطٍ ومسؤولية. وبذلك افتتحت قصيدتي الحكمية التي وجهت إليكم سابقا بقولي .
نصحتك لا أني وكيلك فانــــدع
وخذ وتأمل واغتنم كل حــكمة
فقد يشتهي المنهوم مالذَّ طعمه لنصحي وفكر فيه تفكير لوذعي
تفيد ولو كانت من املاء خولـــع
وليس يبالي الطبخ في أي موضع

وانتبهوا لتسميتي مسجدكم (مسجد الصدق) وللحي الذي تسكنون (حي الصدق) تفاؤلا أولا، ثم تنبيها لكم، وتأكيدا على عظم معنوية الصدق وكثرة ثمرته، وتأكده على كل مسلم، سيّما على المريد. وإصابة التحلي به لكل إنسان مع خالقه وجميع مخلوقات خالقه، وحتى مع نفسه. فالصادق لا يعثر عثرة إلا كانت في صالحه، ويتصرف له الحق من حيث لا يعلم. وعكسه نقيضه؛ فذو الخيانة لا يخون في شيء إلا أصبح وبالا عليه، ولا يطرق أحد بابا للخيانة إلا أمسكته، فتوطنها أبدا لشؤمها. ويكفيها تنفيرا منها تصريح الخالق أنه لا يحب أهلها. قال تعالى: “إن الله لا يحب الخائنين”. ففروا أيها الرشداء إلى الله من جميع أنواعها. وكما أن صاحبها لا يؤتمن، فهو أيضا يرى أن كل إنسان خائن قياسا على نفسه. فالخيانة داء على القلب عضال. ففروا منها فراركم من الأسد. ولو كانت للمكافأة، ولو كانت لكافر.
ثانيا: ليكن على بال منكم أن الله أكرمكم بأن أوجدكم على الصورة المحمدية التي هي أفضل صورة في الوجود، وجعلكم من أمته صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل الأمم، وعلى دينه الذي هو أفضل الأديان. ثم خرطكم في الطريقة التجانية التي خص بها سيدُ الوجود وعلم الشهود صلى الله عليه وسلم ولده وخليفته المطلق شيخنا أحمد التجاني يقظة لا مناما، وضمن له فيها ما ضمن. وضماناته صلى الله عليه وسلم لا تتخلف. وذكر له فيها من متعلقات الفضل ما يبهر العقول ويعجز النقول. وهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
ثم أبرزكم لحيز الوجود في زمن صاحب الفيضة التجانية، الآية الكبرى والنفحة العظمى التي كان الكمل الأبرار من عظماء التجانيين يتمنون أن يدركوها لما وصفها شيخنا التجاني بما وصفها به، وأكرمكم بتصديق صاحبها الذي خصه الله بما خصه به، وخص أتباعه بما لا يذكر بالألسن ولا يكتب في الأوراق. واختاركم للانتساب الطرقي إليه واجتناء بعض ثمراته التي لا يعبر عنها إلا قوله تعالى “وكان فضل الله عليك عظيما”.
وعليه، أيها الإخوة في الله والأحبة الخلصاء، لا ينبغي لكم إلا أن تكافؤا نعم الله عليكم وتستزيدوا منها وتستثبتوها عليكم بما يرضيه من التخلق بأخلاق الأصفياء المخصوصين المخلصين الأولياء المقربين والبررة الجادين دائما فيما يقرب إليه من الثبات التام تحت راية السنة والتنافس في الإخلاص في العبودية وإعطاء المشاهد الباطنة ما تستحق من المراقبة والانفراد القلبي والتفكر الدائم والإسرار بعد الإسرار، بدلا من نشرها وتفاخر الألسنة بها والتصريح بكذا بطون كذا، وكذا تنزل كذا، بما لا ينفع المخبَر، بل يضره، ويضر المخبِر على كل حال.
وإياكم ثم إياكم والتزوير على قلم الشيخ أو لسانه فإنه مهلكة للمريد بلا شك، وضامن لفضيحته بسرعة، وصاحبه محروم أبدا بدلا من إرادته إثبات حجته به. وعمروا أوقاتكم بما يعنيكم. وإن فعلتم فلن يبقى منها لمحاسن الغير ولا مساوئه فائض. ولازموا التضرع إلى الله والتحفظ ألا تكونوا، بعدم الاستقامة، سببا لتنفير عباد الله عن هذا الكنز العظيم والخير الجسيم الذي فتح في قرون الظلام والفتن وأصبح الصابر على دينه كالقابض على الجمر، وأعمال الخير فيه مضاعفة الأجور لصعوبة الصبر عليها، وغربة الموفق إليها، كما ذكر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال أثناء حديثه الطويل (فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن على مثل قبضٍ على الجمر،للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون بمثل عمله ) أخرجه ابن ماجه، وأخرجه كذلك أبو داود وزاد فيه: قال يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: أجر خمسين منكم) انتهى.
وقد عبر الصادق المصدوق عن عمل الصحابي، كما أخرجه البخاري وغيره؛ قال: قال صلى الله عليه وسلم “لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل جبل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه”. قلت: والتساوي في أجر معين لا يقتضي التساوي في الفضل. فالصحابة لا يدانيهم أي إنسان في الفضل، ولو بلغ ما بلغ وعمل ما عمل. ولكن يتضح من سياق الحديث الأول أن الأجور تعظم هكذا حسب المضايقات والعراقل التي تعترض العامل. وربما كالت للمفضول بمكيال الفاضل، فانتبهوا جدا.
ثم لتعلموا أيها الإخوة وفقكم الله أن الكريم القديم الباقي الوهاب ما فتح بابا للخير وأغلقه عن عباده قبل الموت. ولكن ربما طور النوعية والأسلوب. والجهاد الذي أمر به وأثنى على صاحبه وأكثر من الحث عليه وشدد في الترغيب فيه، كقوله جل وعلا “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”. وشجع عليه فقال: “ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه”. فلتعلموا أن هذا الجهاد أصبح اليوم أصعب مما كان وأشد غررا مما كان وأعم مما كان وأدوم مما كان. فلا يخص اليوم الرجل عن المرأة ولا القوي عن الضعيف ولا الحر عن العبد، وأنه كان بينك وبين عدو منفصل عنك إن أغلقت دونه أو بعدت عنه أمنت منه إلى حين. وتقتله ضربة واحدة. وإن قتلته ظفرت، وإن تغلب عليك فقتلك فزت بالجنة وبرضى الله الذي هو أكبر. ولك عليه أنصار مثلك يعينونك ويؤازرونك عليه.
واليوم أصبح فرض الجهاد عليك بينك وبين نفسك التي بين جنبيك. وهي العدو القوي النشيط المحتال. ولا يمكن التدرع عنه لقربه ولا التحايل عليه لملازمته ومهارته في عورات أمنك. وإن كففته عنك مرة من جهة أتاك من جهة أخرى في نفس اللحظة، ويحاربك ليلا ويحاربك نهارا. و إن ظفر عليك ألقاك في سخط الله وهو شر من جهنم. وإن ظفرت عليه مرة بُعث في الحين واقتحم عليك بسلاح جديد أقوى مما كان عنده. وكل ما هو موجود في عصرك من إنس وجن وناطق وصامت جنود له مجندة ضدك، حتى أهلك وعيالك ومالك و أقاربك. وحتى سريرك الذي تنام عليه. كل هذا تجعل منه النفس سلاحا صارما ضدك يهلكك أو على الأقل يخسرك. وفي الحقيقة لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه؛ فانتبهوا أيها الإخوة لخطورة هذا العدو واستعينوا عليه بالله واعلموا أن مخالطة أتباعه قوة له، وما أكثرهم وأطوعهم له. فمن خالطهم فوق مالا بد للمضطر منه فقد تسبب في الهلاك. وإن كانت الضرورة تبيح المحظورات، فبأقل ما يسدّ الخلة، كما هو معلوم عند الجميع. ومن أقوى ما تتقوون به على النفس ومريديها الواصلين على يدها الشيطان الرجيم والهوى المتبع: هو التمسك بهذه الطريقة المثلى التجانية بنية صافية وقلب حاضر أبدا، وتطبيق شروط تام، واتباع وصايا صاحب الفيضة فيها نقطة نقطة، والتمسك بعهده واغتنام وجود توجيهاته للسالكين و الواصلين والمقدمين ولتلاحظوا دائما قوله رضي الله عنه: “وما قلتم من أن مريدي وعاء ممتلئ من أسرار الحضرات الثلاث فنعم. لكن أين مريدي؟ فإن مريدي أعوز وجودا من الكبريت الأحمر عندكم إن كان الأمر كما وصفتم. ويوشك أن أرفع الإذن عن كل مقدم تقتحم بحضرته المحرمات ولم يقم بما أوجب الله عليه” …إلخ. وإليكم نص رسالته هذه بحروفها مقتصرين عليها، وإن كان معها كثير من أنواعها في الموضوع.
“بسم الله المنتقم العزيز الجبار المتكبر والسلامان على الرسول السيد العبد القائل: يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا. أما بعد حمده بما يليق بجلاله، فيصل الكتاب إلى ولدنا أحمد تيام ومالك صو، وإلى كل من يقف عليه ممن يدعي الانتساب إلينا. موجبه أني اثنان ليسا مني ولا من الطريقة في شيء؛ مجذوب لم يسلك وسالك لم يجذب، إن بقيا على حالهما ووقفا عن سيرهما. وإن شأني، كما علمتم، من أراد أن يكون معي في حالي فليسلك طريقي في الأقوال والأفعال بامتثال الأوامر واجتناب النواهي في الظاهر والباطن، والتعطش والتشوق إلى مرضاة الله ورسوله. أما من ينتسب إلينا ويرتكب شيئا من مخالفة الشريعة المطهرة الشريفة باقتحام المحرمات وترك المأمورات فأشهد الله وأشهدكم أني بريء منه. اللهم إني بريء إليك مما صنع هؤلاء “فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم”. “وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون”. وما قلتم من أن مريدي وعاء ممتلئ من أسرار الحضرات الثلاث فنعم، لكن أين مريدي؟ فإن مريدي أعوز وجودا من الكبريت الأحمر عندكم إن كان الأمر كما وصفتم. ويوشك أن أرفع الإذن عن كل مقدم تقتحم بحضرته المحرمات ولم يقم بما أوجب الله عليه. فإن عجز فليهاجر إلى الله ورسوله وإلينا. فو الله ما وقف سير أولئك حتى رجعوا للتأنس بالحوادث إلا لطول عهدهم بنا. فمن حضر معنا في كثير من الأوقات ينس طعم الشهوات، فإن هنا شبانا صغارا قـــــــــــد نسوا طعم الشهوات حتى أن منهم من ينسى زوجته ولا يأتيها إلا بالإذن والإكراه. هكذا تلامذتي، والغير لا.
فلابد لكم من الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة والامتثال والاجتناب والزهد والورع والتعلم. قال الله تعالى لولي الأولياء “وقل رب زدني علما”. فالذي يليق بالمريد ألا يقف سيره حتى يلحق بي. فإذا لحق بي وأشكل علي حاله فليرجع إلى شيخ أعلى مني مقاما.
واعلموا رحمكم الله أن كثيرا من المدعين صد الناس عن الله بعدم الاستقامة. ومن انتسب إلى الله وصار يصد الناس عن سبيله فقد بارز الله بالمحاربة، وصار في حيّز أهل الإنكار الأشقياء لكونه سببا لذلك. ولا بد لكم من الحضور معنا في كثير من الأوقات لتأخذوا عنا آداب السلوك كما أخذتم حقائق الجذب. ومن فعل ذلك فقد فاز فوزا عظيما. ولابد لكم من تغيير المناكر التي تقع في الإخوان باليد واللسان والقلب كما في الحديث. ولابد لمن يريد الانتفاع من حفظ ما يصدر منا من الوصايا نظما و نثرا.
وهذه البراوة حفظها واجب على كل مريد. وكل من وقف عليها فلينسخها ويلازمها ويقرأها كل يوم. وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة وصوموا رمضان وحجوا البيت من استطاع إليه سبيلا. وتصدقوا المال لوجه الله تعالى. ففي حديث مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن –أو تملأ- ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك. كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”.
وقال تعالى وهو أصدق القائلين “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي”.
فالويل كل الويل لمن لم يتلق حكم الله ورسوله بالقبول التام. لكن من بلغه كتابنا هذا وتاب وتدارك ما أمكنه فله سعادة الدارين، عفا الله عما سلف. ومن لم ينزجر فأشهد الله وأشهدكم أني بريء منه، ولا أبرأ منه إلا بعد براءة الله ورسوله منه. وعليكم بالإكثار من صلاة الفاتح لما أغلق. وعليكم بكتم الأسرار قولا وفعلا. ودعوا عنكم التجاهر بكلام أهل الحقائق، واسلكوا الصراط المستقيم، وتلك الشهوات طاغوت تعبدونه بعد دعوى الإيمان. وقال تعالى: “ومن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم”.
وأنت يا أحمد تيام، بلغ هذا الكتاب إلى كل من ينتسب إلينا؛ فأرسل إلى كل كبير في محل نسخة منه ليقرأها لمن معه ومن حوله. وأرجو من الله أن تتلقاه منكم قلوب صافية وآذان واعية. والله يهدينا ويهديكم، والسلام. وكتب إبراهيم بن الحاج عبد الله في مدينة كولخ .
هكذا، أيها الإخوة، سمعنا من نصائح الشيخ الملحة، وإرشاداته الحميدة
– وتحققنا من تصريحه أن لا سبيل للانضمام إليه في حاله إلا لمن سلك سبيله في الأقوال والأفعال، بامتثال الأوامر واجتناب النواهي في الظاهر وفي الباطن، ودوام التعطش والتشوق إلى مراضاة الله ورسوله
– ورأينا صريح تبرؤه من كل من يخالف الشرع، وإشهاده لله وللمخالف على ذلك،
– ورأينا تهديده لكل مقدم تُقتحم بحضرته المحرمات، ولم يقم بما أوجب الله عليه،
– ورأينا قطعه المدد عمن لم ينته عن ذلك ويتب،
– ورأينا تحريجه على النساء في رفع الصوت بالذكرٍ،
– ورأينا تحريجه على المرأة في السفر دون محرم
– ورأينا منعه للخلوة مع الأجنبية، ولو على الأكابر
– ورأينا تحريجه في اختلاط الرجال والنساء
– ورأينا تنبيهه أن بعض المدّعين صار يصد الناس عن سبيل الله بعدم الاستقامة،
– ورأينا تصريحه أن من فعل ذلك فقد بارز الله بالمحاربة، وصار في حيّز أهل الإنكار الأشقياء لكونه سببا لهم في ذلك،
– ورأينا تساؤله عن: أين مريده؟ ما دامت الحال هكذا
– وسمعنا قبل ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: “أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين”. وقوله جل وعلا: “والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين”.
ولا جهاد اليوم، كما وضحت سابقا، إلا جهاد النفس. فلننتبه، ولنحذر، ولنلتجئ إلى الله أن يجعلنا من الصابرين المحسنين، الذين يجمع حسنُ سلوكهم واستقامة جذبهم عبادَ الله على الله، بجاه وحرمة من أخاطبه سابقا بقولي، وأنا أقلب عيني في روائه المعظم، وهو يكلمني بما يكلمني به، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله:
علوًّا أبا إسحاق والحق لا يخفى
تسنمت فعل المجد والإسم والحرفا

وأحمق خلق الله من ظن أنه
رأى لك أشباها على الأرض أو أكفا

توطنت العليا خطاك، وأوهجت
مصابيح هدي من مساعيك لا تطفا

وقومت دين الحق بالحق متقنا
له الأس والحيطان والسطح والسقفا

وظلك رغس واقتفاك غنيمة
وجارك لا يشقى ونورك لا يخفى

وأنت الذي قيدت شرد ما اختفى
من العلم واستخرجت من دره الأصفى

رآك ذوو الحاجات وقفا عليهم
فصيرت ما راموا على رومهم وقفا

تزاحمهم حتى يخالوك مثلهم
وتوليهم منك التودد والعطفا

وما أنت، لولا أن للقوم خيبة
إذا لم تلح فيهم كشكلهم ملفى

ظهرت لهم قيد المطالب لينا
جنابا لذيذا عشرة باسطا كفا

شفيقا بهم، عنهم غنيا مخلصا
لهم حيثما زلوا أقلت، ولا عنفا

عفوّا عن الزلات لله داعيا
مجابا، مصيبا للصفا والوفا إلفا

حليما رحيما مشهيا متوددا

لذي الضعف كهفا وصلك الفوز والزلفى

وإنك أوفى المرشدين مياثقا
وأنداهم كفا وأطيبهم عرفا

وأوسعهم علما، وأخلصهم تقى
وأوقعهم مدحا وأحلاهم قطفا

وأوثقهم حبلا وأوضحهم هدى
وأبعدهم غورا وأيسرهم غرفا

لقصدي أبو إسحاق من أوضح الهدى
ومن عاف غير الحق طبعا ومن عفّا

أرانا العلى شمسا تماشي على الثرى
وحسن السُّما طبعا وقفو الهدى عرفا

ملاذي أبا إسحاق عطفا لواهن
يسابق وهو الأعرج المجتلى خلفا

إذا لم تعامله بمحض تفضل
تقاعس حتى ضل فاستصغر الخسفا

فحبك إيمان ووصلك جنة
ومدحك مستجدى وذكرك مستشفى

وكم حاز من يهواك ما رام كله

وقاليك في قسم الهدى استوجب الحذفا

صلاة على المختار ما فزت بالمنى
وظلت لك التقوى وأحلافها حلفا