تنزل الوحي على رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عند محمد الغزالي قال:

0
1080

تقلّصت ظلال الحَيْرة ، وثبتت أعلام الحقيقة، وعرف محمد عليه الصلاة والسلام معرفة اليقين أنه أضحى نبياً لله الكبير المتعال، وأن ما جاءه سفير الوحي ينقل إليه خبر السماء..! إلا أن الروعة التي انتابته من هذه الصلة بين إنسان وملك، تركت في نفسه أثراً من الجهد، كأنما كان يعالج عملا مرهقاً صعباً.

ولا عجب فقد ظل يعاني من التنزيل شدة أمداً طويلاً، وشاء الله أن يفتر الوحي بعد ابتدائه على النحو الذي أسلفنا حتى يكون تشوُّف الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وارتقابه لمجيئه سبباً في ثباته واحتماله عندما يعود، ومع ذلك فإن الطاقة البشرية ناءت أمام وطأته.
جاء جبريل عليه السلام للمرة الثانية، قال جابر بن عبدالله: سمعت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) يحدِّث عن فترة الوحي، فقال لي في حديثه: فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالساً على كرسي بين السماء والأرض، ففزعت منه حتى هويت على الأرض، فجئت إلى أهلي، فقلت: زملوني زملوني، فدثروني…

فأنزلَ الله عز وجل:

{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ..}.

كانت هذه الأوامر المتتابعة القاطعة إيذاناً للرسول (صلَّى الله عليه وسلم) بأن الماضي قد انتهى بمنامه وهدوئه وسلامه، وأنه أمام عمل جديد يستدعي اليقظة والتشمير، والإنذار والإعذار، فليحمل الرسالة، وليوجه الناس، وليأنس بالوحي، وليقوَ على عنائه، فإنه مصدر رسالته ومدد دعوته.
والوحي إلهام ينضح على القلب بمراد الله في صورة واضحة لا تحتمل الريبة وله مراتب شتى بعضها أيسر من بعض. فعن عمر “كان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) إذا نزل عليه الوحي، يسمع عند وجهه كدوي النحل”.

وكان أحياناً يأتي في مثل صلصة الجرس -وكان أشده عليه- فيلتبس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد وحتى إن راحلته لتبرك به على الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه إلى فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضُّها. وقد يأتي أيسر من ذلك وأخف.

وربما قيل: لماذا كانت أوائل الوحي بهذه المثابة من الشدة؟ ولماذا لم يبدأ نزول القرآن إلهاماً في منام. أو إلهاماً في يقظة على نحو ما قال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): “إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب…” أَوَ ليس هذا أبعد عن دواعي الفزع والإعياء؟؟؟.

والجواب أن نزول القرآن اتخذ هذه الطريقة أول الأمر، ونزل الملك به في هذا المظهر قطعاً لكل شبهة في أنه ألفاظاً ومعاني من عند الله، وأن محمداً حُمِّلَه تحميلا بعد أن اصطفيَ له واختص به. فهو ليس افتعال عابد منقطع تخيل فخال، ولا صناعة فيلسوف ماهر يجيد سوق الأدلة وتنميق المقال، إنما هو كلام الأحد الحق الكبير المتعال:

{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى.مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. َفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى}..؟.